“قناة إسطنبول”.. حلم السلاطين الذي لم يتحقق
تعود فكرة مشروع قناة إسطنبول إلى خمسة قرون، واقترح الفكرة المهندس معمر سنان على السلطان العثماني سليمان القانوني “1520- 1568”.
ومن بعده تبنى المشروع العديد من السلاطين، لعل آخرهم كان السلطان محمود الثاني الذي شكل لجنة عام 1813 للبدء به، إلا أن المشروع لم ير النور لأسباب مالية بالدرجة الأولى، وهكذا جُمد الحديث عنه إلى أن طرحه الرئيس أردوغان مجددا عام 2011 “وقتها كان رئيسا للوزراء”، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف الجدل بين الحكومة والمعارضة بشأنه، إذ تقول الأولى إن المشروع سيشكل العنوان الأبرز لتركيا ما بعد عام 2023، وإنه سيجلب فوائد كثيرة للبلاد، فيما ترى الثانية أن المشروع يحمل مخاطر كبيرة لا سيما على مدينة إسطنبول التي يعيش فيها قرابة 16 مليون نسمة، وأنه قد يُعرّض العلاقات التركية والاتفاقيات الدولية التي حددت التزامات تركيا لمخاطر وتحديات .
انطلاقا من هذه الخلفية التاريخية والسياسية، تحول بيان عشرات الضباط الأتراك المتقاعدين بشأن اتفاقية مونترو ومشروع قناة إسطنبول إلى كرة نار في تركيا، فحكومة العدالة والتنمية برئاسة أردوغان سارعت إلى القول إن ما جرى هو انقلاب أو تمهيد أو تلميح له، واعتقلت معظم هؤلاء الضباط، فيما المعارضة ذهبت إلى القول إن ما جرى محاولة لاصطناع انقلاب بغية الدفع بمشاريع إشكالية، وعلى رأسها قناة إسطنبول إلى حيز التنفيذ، حيث تعد المناقصات لطرحه رسميا في الفترة المقبلة، وسط تساؤلات كثيرة عن مصادر التمويل في وقت تعيش فيه البلاد ظروفا مالية صعبة وتعاني من أعباء انتشار وباء كورونا كما هو حال باقي دول العالم.
في حسابات الربح والخسارة، يحتد الجدل بين الحكومة والمعارضة، تقول حكومة العدالة والتنمية إن المشروع سيدر سنويا قرابة ثمانية مليارات دولار على البلاد من عبور سفن الشحن لقناة إسطنبول، وإن الأخيرة ستخفف من الضغط على مضيق البوسفور، وإنها إلى جانب مضيقي البوسفور والدردنيل ستجعل من تركيا أهم بلد للتجارة ولعبور البضائع، وأبعد من هذا، ترى حكومة العدالة والتنمية أن قناة إسطنبول ستفتح الباب أمام تركيا لدفع العالم إلى إعادة النظر في اتفاقية مونترو 1936، “وقعت على اتفاقية مونترو كل من تركيا والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا واليونان ورومانيا ويوغسلافيا واليابان وأستراليا”، التي حددت التزامات تركيا بخصوص البحر الأسود والسماح لسفن الدول المطلة على هذا البحر بالمرور في البوسفور والوجود في حوض البحر الأسود دون مقابل مالي.
وعليه، يتمسك أردوغان بقوة بمشروع قناة إسطنبول، ويقول إنه سيترك بصمة في القرن المقبل، وفي سبيل ذلك يؤكد المضي به مهما كانت الصعوبات، إذ قال قبل فترة “لم ولن نسمح لأي قوة بالحيلولة دون تحقيق تركيا أهدافها لعام 2023″، لكن طموحات أردوغان هذه تقابل برفض كامل من المعارضة، بل بلغ الأمر برئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو إلى وصف مشروع قناة إسطنبول بخيانة المدينة التاريخية، إذ حسب أن المشروع سيقضي على المنطقة التاريخية والأثرية من إسطنبول، وسيؤدي إلى تهجير أكثر من مليون شخص من هذه المناطق إلى داخل المدينة، بما يؤدي كل ذلك إلى زيادة الأعباء على مدينة إسطنبول، كما أن المشروع الذي يربط بين البحرين الأسود ومرمرة بطول 45 كيلومترا وعرض 150 مترا سيؤدي إلى مخاطر جمة، إذ إن عمليات حفر القناة ستحدث خللا في التربة، وتهدد بالقضاء على مخزون المياه الجوفية، وحدوث انهيارات وزلازل وقطع ملايين الأشجار من الغابات، و يجعل كل ذلك من إسطنبول بؤرة للتلوث، وتحويل منطقة قناة إسطنبول إلى جزيرة تفصل بين قارتي أوروبا وآسيا، أبعد من ذلك ترى المعارضة أن المشروع الذي تقدر تكلفته المبدئية بخمسة عشر مليار دولار يحتاج إلى ضخ استثمارات بقيمة 700 مليار دولار للبنى التحتية و400 مليار للمشروعات الحضرية، وهو ما يطرح السؤال الجوهري، من أين لحكومة العدالة والتنمية أن تمول هذا المشروع الضخم خاصة أنها متورطة في حروب عديدة؟ كما أن الظروف المالية لتركيا لا تشجع الدول الكبرى الغنية على المساهمة في تمويل المشروع، بل ترى المعارضة أن مشروع قناة إسطنبول سيشكل مسا باتفاقية مونترو، وأن هذا السلوك سيؤدي إلى توتير علاقات تركيا مع العديد من الدول، لا سيما روسيا التي تنظر بحذر إلى النشاط التركي في البحر الأسود، وتخشى من تحولها إلى نفوذ للحلف الأطلسي على وقع تفاعلات الأزمة الأوكرانية.
من دون شك، تحول مشروع قناة إسطنبول إلى مادة جدلية ساخنة بين الحكومة التركية والمعارضة، ومع هذا الجدل صعدت الحساسية إلى سدة المشهد السياسي إلى درجة أن بيان الضباط المتقاعدين بشأن القناة تم اعتباره انقلابا عسكريا من قبل الحكومة، في حين لم تعد لهؤلاء علاقة بالجيش بل باتوا في عداد المدنيين، فيما ترى المعارضة أن أردوغان لا يوفر مناسبة إلا ويحولها إلى فرصة للهجوم على المعارضة، وأن الحديث عن مشروع قناة إسطنبول يدخل في إطار التحضير للانتخابات المفصلية التي ستتزامن مع الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية، وهي ذكرى باتت تحتل بوصلة أردوغان وجهوده وأحلامه وطموحاته الجامحة، ومن كل هذا يبقى السؤال، بعد خمسة قرون هل يحقق أردوغان حلم السلاطين في تحقيق قناة إسطنبول؟