تُبرز تطوّرات الأحداث في منطقتنا العربية، وفي العالم عموماً، أنّ الإنسانية ملّت الحروب والنزاعات، وأصبحت تنشد السلام والتعاون وثقافة الحياة.
ورغم أنّ وتيرة أخبار الموت لا تزال مرتفعة، فإن ثقافة الحياة والحريّة ما انفكّت تحتلّ مساحات أكبر في وعي المجتمعات والشعوب، سواء تعلّق الأمر بمنطقتنا، أو بمناطق أخرى من عالمٍ لم يَعُدْ يتّسع للموت الذي تسبّبه الحروب والنزاعات والجهل والتطرّف والحقد والإرهاب.
وقد بدأنا نلمس بصفة تدريجية، ولكنّها مؤكّدة، أنّ السّياسيين في ربوعنا بدؤوا في تفهّم أنّ الحروب وثقافة الموت لا تصنع ربيعاً أو سلاماً، وإنّما هي طريق سالك نحو الدمار والخراب والانهيار الأخلاقي والقيمي، ويُعتقد أنّ أزمة وباء “كورونا” أسهمت، إلى جانب النزاعات والحروب، في نشر ثقافة الحياة، بديلاً عن الثقافات والأفكار التي تقود رأساً إلى الموت والدمار.
مناسبة هذا الحديث، هو انعقاد قمّة التعاون والشراكة في العاصمة العراقية، بغداد، والتي لمسنا فيها تغييراً فعلياً على مستوى الخطاب والفعل السياسيين الرسميين، إضافة إلى عديد المؤشّرات الدالّة على أنّ الحياة في العراق عاودت نبضها العادي، بدْءاً بالانفراج الأمني الملموس، وصولاً إلى حراك معماري لافت، يحيل بالضرورة إلى نهضة تنموية، أضحت مسألة وقت لا غير.
كان السؤال، الذي يجول بالخاطر ونحن في الطريق إلى العراق، هو: ما الذي تغيّر في هذا البلد، الذي عندما تداعى بفعل السياسات السابقة، التي لم تكن تعبّر عن طموحات المواطن، تداعى له سائر الجسد العربي، وشهدت المنطقة مرحلة من التوتّر والتأزّم والهوان، التي كادت تعصف بمجتمعاتها، بعدما أتت على عدد من دولها؟!
هو سؤال مشروع، بحُكْمِ ثقافة الموت التي رسّختها في هذا البلد سياسات الاستبداد، وزادتها رسوخاً جماعات الموت من دواعش وغيرهم، والتي تحرّكت تحت يافطة التطرّف الديني.
هي قمّة جمعت دولاً مجاورة، وأخرى صديقة، ويكاد يكون خطابها موحّداً، حول حتمية تركيز أسس التعاون بينها، بدل مواصلة النزاعات والحروب، والتي كانت سبباً في تسلّل جماعات الحقد والتطرّف، التي لا همّ لها سوى تدمير الدول والمجتمعات، وتزييف وعي الشعوب، ومسخ ثقافاتها.
ونعتقد بقوّة، أنّ الموت الجاثم، الذي كان عنوان مرحلة حاولت فيها جماعات التطرّف الديني بسط نفوذها على المنطقة، أسهم هو الآخر، كردّ فِعْلٍ، في خلق مناخ يؤسّس لخطاب جديد، قوامه الديمقراطية والتنمية للجميع، وهو كذلك مؤسّس لفعل سياسي، يقطع مع الاستبداد والتطرّف، ويكادُ الكلّ يقتنع بأنّ الحوار دهراً، أفضل من لحظة حرب مدمّرة.
ولأنّ أصعب الأمور هي بداياتها، يمكن أن نفهم ونتفهّم التردّد النسبي لدى البعض، ذلك أنّ عملية بناء ثقةٍ كانت منعدمة بين الأطراف، هي عملية صعبة ومعقّدة، غير أنّ مثل هذه اللقاءات، من شأنها أن تؤسّس لتعامل جديد، يساعد على ربط جسور التعاون بين هذه الدول، التي لا تسير بالضرورة على الوتيرة السياسية نفسها، ولكنّ مصيرها الاقتصادي بدا مترابطاً بشكل كبير.
عنوان هذه القمّة هو اقتصادي، ولكنّ انعقادها لم يكن ممكناً، لو لم يتمّ تذليل أهمّ العقبات السياسية، والتي هي الإجماع على موقف موحّد من الجماعات المتطرّفة، التي تريد تفكيك الدول وتخريب وعي المجتمعات.
ونعتقد أنّ هذا الرأي هو الغالب داخل هذه القمّة، كما نفهم أنّ الرأي الآخر داخل القمّة قد يكون حصل لديه الاقتناع بأنّ التعاون والشراكة في التنمية هما الأبقى، وهو ما يعني أنّ فكّ الارتباط مسألة قادمة لا محالة.
إنّ تذليل هذا العائق السياسي بصورة فعلية وواضحة، ولا لبس فيها، هو البوّابة الأساسية لتأسيس فضاء للشراكة والتعاون والتنمية المستديمة لكلّ شعوب المنطقة، إذ لا يمكن للمرء أن يستوعب خلق هذا الفضاء، في ضوء وجود جماعات ومجموعات لا تنتعش إلّا في مناخات الحرب والإرهاب والموت، وهي جماعات لا يتحقّق وجودها، إلّا بتفكيك الدول والمجتمعات، وتزييف وعي شعوبها، وتحويل وجهة قيمها.
إنّ تجاوز ثقافة الموت والحرب لن يكون ممكنا، ما لم يتمّ اجتثاث دابر الإرهاب، ومهما اختلفت تعبيرة التطرّف، الذي يتحرّك تحت عباءات دينية مغشوشة، فسلوك الأسوياء يجب أن يكون واحداً موحّداً ضدّ تجّار الموت والدمار.
العراق إذاً، هو دولة تتعافى، لأنّه يريد أن يقطع مع الموت والحروب، بعد أن كسب جولات حاسمة ضدّ الإرهاب.. بقي شيء واحد، وَجَبَ تأكيده: القلاع الحصينة، لا تؤخذ إلّا من الداخل.
نقلا عن البيان الإماراتية