سياسة

قراءة في العلاقات القطرية التركية


الناظرُ في العلاقات الدولية من حيثُ تقارب بعض الدول من الأخرى دوناً عن الغير، فإنّه يجدُ الكثير من نقاط الاتّفاق والتّكامل على المستويات السياسيّةِ والعسكريّة والاقتصادية على مبدأ إكمال كلٍّ منهما للآخر وتبادل المصالح، فإذا ما نَظرتَ وفق هذه المعادلةِ المنطقيّةِ التي تُعَنْوِنُ ألف باءَ السياسةِ إلى العلاقات القطريّة التركيّة فإنّك لن تجدَ منها شيئاً، وإنما العلاقة القطرية التركية محكومةٌ بالثالوث المقدس لسياسة التآمر والتدمير القائمة على الخيانة والارتزاق وتهديد الأمن والاستقرار.

فالتقاربُ القطريُّ التركِيُّ إنما بدأ بإعلانِ قطر الخروج وشقّ الصفّ العربيّ ليس لصالحِ المرشد الإخواني فحسب بل ولصالح المرشد الإيراني، ولكنّ التقارب القطري مع الأتراك أكثرُ وضوحاً وعلانيةً منه مع الإيرانيين، ولا سيّما بعدَ أحداث الربيع العربي التي قلبت الموازين وخلطت الأوراق السياسية وبخاصّة في مصر، التي سيطر على الحراك الشعبي حينها تيار الإخوان المسلمين فسارعت كلّ من قطر وتركيا إلى تثبيت دعائمه، لأن الإخوان إنما يلعبون على مصطلح “الأمة الإسلامية” لشرعنة العمالة الخارجية وتحويل البلدان العربية إلى مناطق نفوذ دولية، ولكنّ الغريب في الأمر ليس الدعم التركي لهذا التيار الذي يسيطر أساساً في تركيا رجب طيب أردوغان على سدة الحكم في أنقرة، إنما الغرابة في قطر التي لا نظامها السياسي ولا عقدها الاجتماعي الناظم للمجتمع القطري يتوافق أصلاً مع النموذج الإخواني، مما يعرّي ادعاءاتها الباطلة ويظهر حقيقة أهدافها المتمثلة بضرب المشروع العربي ومصلحة الأنظمة والمجتمعات العربية بغية أوهامٍ سلطانيّةٍ تقود أردوغان وأخرى سياسية تحاول قطر من خلالها تعويم نفسها على أنها الصغيرة الفاعلة، وهو ما لا تستطيع فعله لضآلة دورها الطبيعي على المستويات السياسية والعسكرية إلا بالعمالة والخيانة، وهو وما ترنو إليه السياسة الأردوغانية لتمرير مشارع السلطنة الحالمة.

ومن الطبيعي أنّ السياسة التآمرية حتى تكون فاعلةً ومحدثةً للجلبة والضوضاء لا ينبغي لها أنْ تقفَ عندَ حدود الخطابات السياسية وتسخير المنصات الإعلامية وتأمين الملاذ الحصين للأدوات المستعملة في المؤامرة، إذْ لا بُدّ من اختلاق الأزمات وتحريك الأدوات سراً وعلانيةً لضرب الاستقرار في كلّ ما من شأنه أنْ يسهمَ في تهدئة النفوس والتصالح الوطني والدولي، وهذا ما يبرّرُ – على سبيل المثال – التدخلات التركية في كلٍّ من سوريا والعراق وليبيا بشكلٍ مباشر حيناً وبتحريك الأدوات حيناً آخر في تحدٍّ صارخٍ لسيادة الدول المعترف بها دولياً وللقانون الدولي والمجتمع الدولي، ولكن التساؤل المشروع في هذا المقام هو: من أين لتركيا هذه الشجاعة لتحمُّل تبعات تلك السياسة، لا سيما على الصعيد الاقتصادي؟ من المعلوم لتركيا قيادةً وحزباً حاكماً أنّ مثل هذه الممارسات محرجةٌ في الداخلِ إذ لا يمكن أنْ يقبل المجتمع التركي الآمن المستقر بالزج بأبنائه في معاركَ لا تعنيه لا من قريب ولا من بعيد، كما لن يقف المجتمع الدولي المتضرر منها مكتوف الأيدي ولو على مستوى العقوبات الاقتصادية المكلفة والتي ستؤجج الشارع التركي الذي عانى كثيراً لبلوغ الاستقرار الاقتصادي، فالتفّ “أردوغان” على المسألة الأولى باستبدال الجيش التركي بمرتزقةٍ لتلافي الخسائر البشرية في الجيش التركي، أما المسألة الثانية فهي التي ستتولاها قطر من خلال تعويض ما ستخسره تركيا من العقوبات الاقتصادية بالمال القطري بالإضافة إلى تمويل المرتزقة وتسليحهم على حساب مقدرات الشعب القطري الذي لا ناقة له ولا جمل في مثل هذه المشاكسات التي لا طائل منها غير إفقار الشعب وسلخه عن عروبته ومحيطه الطبيعي.

لا شكّ بأنّ المقاربة بهذه الطريقة تجعل من القارئ متسائلاً عن صحتها وعن حجم التكلفة التي تتجشّمها قطر في مثل هذه المغامرة، بالإضافةِ إلى ما يمكن لها أنْ تخسرَه أو تكسبَهُ منها، في الحقيقة إنّ الأرقام التي تدفعها قطر مهولةٌ، فعدا عن تمويلها للتنظيمات الإرهابية في سوريا وليبيا بملايين الدولارات سراً، فإنها تموّل النظام التركي علانيةً على شكل اتفاقات اقتصادية مزعومة كالاتفاق المزعوم في بداية عام 2020 على رفع حجم اتفاق مبادلة العملة بين تركيا وقطر إلى ثلاثة أمثاله عما كان سابقاً ليبلغ 15 مليار دولار، أو على شكل شركات أمنية واتفاقات دفاعية كتأسيس شركة “برق” الدفاعية التركية القطرية ومقرها قطر وبتمويل قطري، يُضاف إلى ذلك صفقات الأسلحة التي لا حاجة لقطر لها من جهة كما أنه لو كانت بحاجتها فباستطاعتها شراء ما هو أكثر تطوراً من الأسلحة التركية وبأموال أقل، كتوقيع عقود ضخمة لم تكشف لا قطر ولا تركيا عن حجمها أصلاً لشراء قطر من تركيا مئات المدرعات وعشرات الزوارق البحرية والفرقاطات، فضلاً عن الكثير من التقارير الدولية كالأمريكية التي تكشف قيام قطر بتمويل التطرف والإرهاب في العالم، والروسية التي تكشف التمويل القطري لصفقات الأسلحة في ليبيا وبشكل واضحٍ، وأخرى تكشف التمويل القطري لحزب الله اللبناني وغيرها الكثير.

كل ذلك يشير بما لا يدع مجالاً للشكّ بأنّ طبيعة العلاقات القطرية التركية ليست قائمةً لا على استراتيجية سياسية ولا على تكاملٍ أو تحالفٍ من شأنه أنْ يجعل منهما قوةً جامعةً لمحيطهما العربي والإسلامي، بل ما يجمعهما هو نقطة واحدة فحسب ألا وهي العزلة التي يعيشها النظامان في أنقرة والدوحة لممارساتهما العدائية وضرب الاستقرار في المنطقة، لتصبح المعادلة فيما بينهما على شكل رسالةٍ من قطر إلى أردوغان: دمّر وخرّب والدوحة تدفع.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى