قائد فيلق القدس في بغداد بهدوء… تحرّك إيراني لاحتواء خلافات داخلية في العراق
كشفت مصادر سياسية عراقية عن تفاصيل زيارة سرّية قام بها قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، إلى بغداد منتصف أكتوبر/تشرين الأول، في خطوة تعكس تحركاً إيرانياً متسارعاً لإعادة ترتيب أوراق النفوذ داخل العراق بعد سلسلة انتكاسات سياسية وميدانية طالت أذرع طهران في المنطقة، ولا سيما بفعل الضربات الإسرائيلية المتكررة ضد وكلائها في سوريا والعراق.
تأتي الزيارة في لحظة حرجة تتقاطع فيها الأجندات الإقليمية والدولية على الساحة العراقية، وسط تصاعد القلق من أن تؤدي محاولات إعادة هيكلة الميليشيات الموالية لطهران إلى مزيد من التوتر الداخلي وإضعاف سيادة الدولة العراقية التي تسعى حكومة محمد شياع السوداني إلى ترسيخها.
أهداف تتجاوز التهدئة
ورغم أن الرواية الرسمية الإيرانية وصفت الزيارة بأنها تهدف إلى “التهدئة وضبط السلاح”، أكدت مصادر سياسية عراقية لموقع ‘شفق نيوز’، أن الهدف الحقيقي من تحركات قاآني هو إعادة تنظيم الفصائل المسلحة ضمن رؤية جديدة تضمن استمرار تبعيتها للحرس الثوري وتعزيز قدرتها على التأثير في القرارين الأمني والسياسي في العراق.
وبحسب هذه المصادر، فقد شملت زيارة قاآني سلسلة لقاءات وُصفت بأنها “شديدة الحساسية” مع مسؤولين حكوميين وزعماء سياسيين وقيادات من فصائل “المقاومة”، تناولت مستقبل العلاقة بين بغداد وطهران، وسبل تجنّب أي تصعيد محتمل مع الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة.
وتشير المعطيات إلى أن قائد فيلق القدس نقل رسالة واضحة من طهران تدعو إلى ضبط الهجمات ضد المصالح الأميركية مؤقتاً، وتوحيد الجهود ضمن الإطار الشيعي استعداداً للاستحقاقات الانتخابية المقبلة. هذا التوجه يعكس إدراك إيران بأن التوتر المفرط في العراق قد يرتد سلباً على مصالحها الإقليمية في ظل الضغوط الدولية والداخلية المتزايدة.
وساطة لاحتواء الانقسامات الشيعية
وتزامنت زيارة قاآني مع تصاعد الخلافات داخل الإطار التنسيقي الشيعي، الائتلاف الذي يضم القوى الموالية لإيران، بشأن النفوذ داخل مؤسسات الدولة واستخدام مواردها في الحملات الانتخابية. وبحسب التسريبات، فقد عقد قاآني اجتماعات فردية وجماعية مع قيادات الإطار، داعياً إلى ترك الخلافات جانباً والمحافظة على وحدة الصف الشيعي قبيل الانتخابات.
وتؤكد مصادر مطّلعة أن هذه الزيارة لم تكن الأولى من نوعها خلال الأشهر الأخيرة، إذ كثّف قاآني تحركاته في بغداد ونجف وكربلاء للوساطة بين الفصائل، في محاولة لاحتواء الانقسامات التي تهدد التماسك الداخلي للمعسكر الموالي لطهران.
العراق ساحة اختبار للنفوذ الإيراني
تأتي هذه التحركات في وقت تواجه فيه إيران تراجعاً نسبياً في نفوذها الإقليمي نتيجة الضربات الإسرائيلية المكثفة ضد مواقع ميليشياتها في سوريا والعراق، إلى جانب تصاعد الأصوات العراقية المطالبة بحصر السلاح بيد الدولة، واستعادة القرار الوطني من الهيمنة الخارجية.
وبينما تسعى حكومة السوداني إلى الموازنة بين التزاماتها تجاه واشنطن وشراكتها مع طهران، تبدو إيران عازمة على إعادة هندسة شبكة ولائها داخل العراق بما يضمن استمرار نفوذها دون الاضطرار إلى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة أو إثارة استياء شعبي متنامٍ ضد تدخلاتها.
موقف أميركي متوجس
في السياق ذاته، عبّر وزير الخارجية الأميركي مارك روبيو خلال اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء العراقي عن قلق بلاده من “الدور المزعزع للميليشيات المدعومة من إيران”، مشيراً إلى أنها “تهدد حياة وأعمال الأميركيين والعراقيين وتنهب موارد الدولة لصالح طهران”. وشدد روبيو على التزام واشنطن بـ”العمل مع الحكومة العراقية لتعزيز الأمن والاستقرار”.
هذا الموقف الأميركي يعكس استمرار حالة التوجس من تحركات طهران في العراق، خصوصاً بعد أن أظهرت زيارة قاآني الأخيرة أن إيران تسعى ليس فقط إلى إدارة الفصائل بل إلى تطويع المشهد السياسي لخدمة أجندتها الإقليمية.
بين التوازن والسيادة
ويرى محللون أن زيارة قاآني تمثل نقطة مفصلية في اختبار النفوذ الإيراني داخل العراق بعد عقدين من الحضور المتشعب. فبينما تعمل طهران على تثبيت أدواتها المحلية، تبدو بغداد أكثر ميلاً إلى تعزيز شراكاتها المتعددة والتمسك بخطاب السيادة الوطنية. هذا التوازن الدقيق يجعل من العراق ساحة مفتوحة للتجاذب بين نفوذين: الأميركي الحذر والإيراني المتجدد.
وتبرز أسئلة جوهرية حول مدى قدرة الحكومة العراقية على الاستمرار في هذا التوازن، خصوصاً في ظل اقتراب الانتخابات وحاجة القوى السياسية إلى التمويل والدعم الخارجي. كما يُتوقع أن تشهد الأشهر المقبلة تصعيداً سياسياً ناعماً، يتمثل في محاولات كل طرف لترسيخ موقعه دون الانزلاق إلى مواجهات مباشرة.
وتكشف الزيارة السرية لقاآني عن أن إيران، رغم ما تواجهه من ضغوط، ما زالت تنظر إلى العراق باعتباره العمق الاستراتيجي الأول لأمنها الإقليمي، لكنها اليوم تتحرك بحذر أكبر، مدركة أن أدوات النفوذ القديمة لم تعد كافية في بيئة عراقية متغيرة، وأن الحفاظ على مصالحها يتطلب لغة جديدة من الانضباط والتكتيك السياسي.
وفي المقابل، يدرك العراق أن استقراره الداخلي مرهون بقدرته على تحصين قراره الوطني من التجاذبات الإقليمية، في وقت تتجه فيه المنطقة نحو إعادة رسم خرائط النفوذ والتحالفات، وبغداد في قلب هذه المعدلات.







