في قبضة «كورونا»
في أبريل (نيسان) الفائت، وبينما كان العالم مرتبكاً ومأخوذاً تحت ضربات الموجة الأولى لفيروس «كورونا»، نشرت في «الشرق الأوسط» الغراء مقالاً تحت عنوان «وماذا بعد؟»، وهو المقال الذي سعيت من خلاله إلى إلقاء الضوء على تأثير هذه الجائحة في العالم من جانب، وما يتوجب علينا فعله بعد أن ينقشع غبارها من جانب آخر.
كان تقديري، وما زال، أن «كورونا» فرض علينا ضرورة إعادة التفكير في تركيز جهود إصلاح النظام الدولي، وتعزيز الاستثمار في مجال الصحة العامة، والمصل والدواء، والمستشفى والطبيب، وكانت دعوتي إلى توافق على مفهوم جديد للتهديدات الحقيقية للسلم والأمن الدوليين، يأخذنا إلى تصنيف الأوبئة، وتغير المناخ، والانفجار السكاني، وصراع الحضارات، ودعوات الكراهية والتمييز بأنواعها، على أنها تهديدات جدية وانشغالات ملحة للنظام الدولي في مرحلة ما بعد «كورونا»، بما يستلزم صياغة توافق عالمي وآليات أممية تعكس استجابة مناسبة لما تنطوي عليه تلك التحديات من مخاطر كونية جدية.
ورغم انشغالي فيما بقي من شهور العام المنصرم بمراقبة وتحليل الكثير من التطورات الإقليمية والعالمية الحادة والمؤثرة، ومتابعتي الدقيقة للتفاعلات والجدل الذي أحدثه نشر الجزء الثاني من مذكراتي تحت عنوان «كتابيه… سنوات الجامعة العربية»، فإن 2020 لم يشأ أن يمضي من دون أن يُعمّد أثره الثقيل وأن يترك بصمته الموجعة على وضعي الصحي.
لقد كنت واحداً من عشرات الملايين من إخوة الإنسانية الذين أصابهم «كورونا»، ليذكرني هذا الفيروس المخاتل بأن كل فرد في قريتنا الكونية يمكن أن يكون ضحية لأوبئتها وتحدياتها العمومية، وهو الأمر الذي كرّس إيماني العميق بأن مصيرنا واحد، وأننا جميعاً مشتركون في إمكانية مقابلة الخطر، وأننا جميعاً معنيون – كل حسب موقعه وقدرته وحجم إسهامه – بالعمل على تعزيز لحمتنا وتطوير أدواتنا إذا أردنا السلامة والازدهار.
قبل نحو عشرة أيام، داهمتني الأعراض المعروفة للفيروس القاسي، وثبتت إيجابية المسحة، وبدأت العلاج في المنزل، قبل أن تظهر الأعراض نفسها على زوجتي، ثم يقرر الأطباء ضرورة خضوع كلينا للعزل والمتابعة في المستشفى، وها أنا ذا أمتثل، والتقارير تفيد باستقرار الحالة وبعض التحسن.
في مساحة العزل والانتظار التي أمضيتها متحسباً لهجمات «كورونا» المرتدة، كان هناك هذا التضامن والتواصل الإنساني البديع مع أصدقاء وزملاء ومعارف، وحتى بعض أشخاص لم تسعفني الذاكرة أحياناً بتذكر ما ربطنا يوماً. قبل ساعات قليلة من كتابة تلك السطور، تلقيت اتصالين كان أحدهما من «أبو تشت» في أقصى صعيد مصر، بينما كان الثاني من مونتفيديو في أميركا الجنوبية، وكانت اللغة مختلفة بطبيعة الحال، لكن المشاعر كانت نفسها. قادة، وسياسيون، ومفكرون، ومثقفون، وفنانون، وإعلاميون، ودبلوماسيون، وأشخاص عاديون، من قارات العالم كلها، جاءتني أصواتهم أو رسائلهم الإلكترونية متضامنة وحانية، فعززت صلابتي وسكّنت بعض الوجع.
لكن تلك المساحة كانت رحبة بما يكفي لتمنحني أيضاً بعض الوقت للتفكير واستخلاص العبر؛ فها أنا ذا أخضع للعزل والعلاج في أحد المستشفيات العامة في وطني مصر، وكما أقراني في الغرف المجاورة تماماً، نتلقى العلاج اللازم ونحظى بالمتابعة المناسبة. إن تعزيز كفاءة النظم الصحية الوطنية العمومية هدف جوهري وأساسي، وقدرة تلك النظم على مواجهة الجوائح مطلب ضروري، ومقابلة توقعات المواطنين في هذا الصدد مناط كفاءة الإدارة وقدرتها على الوفاء بمسؤولياتها.
لا يمكن للعالم أن يتعامل مع المخاطر الجديدة التي تتزايد وتتنوع يوماً بعد يوم بالآليات ذاتها التي انتظم في سياقها التنظيم الدولي منذ منتصف القرن الماضي؛ فثمة ضرورة ملحة لإحداث آليات جديدة.
سيكون مجلس الأمن، ومعه الجمعية العامة للأمم المتحدة، معنيين بدراسة السبل اللازمة لتعزيز لحمة النظام الدولي، وتحديد المشتركات الجامعة، والاتفاق على إنشاء آليات نشيطة، يمكن من خلالها إصلاح النظام الصحي العالمي، وجعله أكثر قدرة على مواجهة الجوائح العالمية، وأكثر التزاماً نحو الحلقات الأضعف، وأكثر تمتعاً بثقة الناس والمؤسسات، وأكثر شفافية وكفاءة في إنجاز أهدافه، وهو الأمر الذي ينسحب أيضاً على الوكالات الأممية المتخصصة والمنظمات الإقليمية، التي يجب أن تتطور لتقوم بدورها في إنجاز تلك الأهداف.
يتوقع الأطباء أن أكون قادراً على الخروج من المستشفى، وأن أتعافى من آثار «كورونا»، وأعود إلى حياتي وانشغالاتي بعد أيام قليلة، وفي الوقت ذاته، لا تنقطع عني الاتصالات والدعوات التي ألمس حرارتها وصدقها، وأنا ممتن لذلك، ولا يفارقني الأمل، ولا ينقطع رجائي في الله عز وجل. ومع هذا، فإن ما فعله «كورونا» في عالمنا وإنسانه يجب ألا يمر من دون فحص ومراجعة، ولا ينبغي أن تعاودنا جائحة جديدة من دون أن ترى فينا استجابة ملائمة، وتضامناً، والتزاماً إنسانياً.
*وزير خارجية مصر الأسبق، والأمين العام للجامعة العربية الأسبق