فشل “النهضة”.. نجاح تونس
تسليط الضوء على فشل حزب النهضة الإخواني، بكل منابره وصيغه وسياقات عمله منذ وصوله إلى السلطة، مدخل موضوعي لفهم دوافع الرئيس التونسي.
تلك الدوافع، التي ألجأته إلى النصوص الدستورية، لتدارك تبعات نهج “النهضة”، بعد أن حوّل، بإخفاقاته وبمناوراته، دينامية الحياة البرلمانية والسياسية والحزبية في تونس إلى حالة متوترة، وواقع متكلس بعيد كل البعد عن إمكانية دوران عجلاته، وعرقل سبل التفاهم مع الكتل البرلمانية الشريكة له تحت قبة البرلمان، وبدأت مخرجات نهجه تراكم على عاتق تونس وناسها مزيداً من المتاعب والمصاعب.
فالتوقف عند قرارات الرئيس قيس سعيد، المستندة إلى الدستور، والتي أنهت حالة الجمود “والتعطيل المتعمد” من قبل حركة النهضة الإخوانية لمؤسسات الدولة التونسية، من زاوية صلاحياته الدستورية فحسب لا يكفي، ولا قراءتها من نافذة محاولته بث الروح والحياة مجددا في أوصال وشرايين المؤسسات على مختلف وظائفها ستفي بالغرض.
لقد امتلكت حركة “النهضة” كتلة برلمانية كبيرة تدير عملية تشكيل الحكومة وتسمية رئيسها، وسعت إلى التغلغل في نسيج بعض مرافق حياة التونسيين في محاولة لتطبيق عملية استلاب متدرج لوعي وثقافة شرائح كثيرة من المجتمع التونسي.
ولجأت للاستثمار في أحزمة الفقر في الريف التونسي لتعزيز رصيدها المتآكل داخل صفوفها وخارجها، ولوضع هذه الشرائح المتعبة تحت سطوتها وتأثيرها.
وبدلت جلدها في منعرجات ومنعطفات داخلية أكثر من مرة.. متخذة نزعات فردية لزعامتها، وجماعية لكتلتها البرلمانية، خلال ممارستها للسلطة.
وقدمت “النهضة” كشفاً مفضوحاً لنمط الحكم، الذي تسعى إلى فرضه على البلاد والعباد.
أخفقت في جميع المسؤوليات، التي تصدت لحملها، سياسياً بدا جليا نهجها الرامي لحيازة السلطة والاستيلاء عليها بذرائع متعددة تخدم أيديولوجيتها كحركة حزبية إخوانية، وليست كجزء من سلطة وطنية.
عملت على الإيحاء بأنها صاحبة السلطة المهيمنة الوحيدة حين كررت رفضها لعدد من توجيهات الرئيس التونسي، المتعلقة بمكافحة الفساد والتصدي لتفشي جائحة كورونا وغيرها.
مارست أساليب الإقصاء وأطلقت تُهَم التخوين على كل من يعارض نهجها، بمن فيهم عددٌ من أولئك الذين ينتمون إلى صفوفها، حين وقّع عشرات منهم عرائض تطالب بإنهاء سيطرة “الغنوشي” على قراراتها ومصادرتها لمصلحة فئة بعينها داخل صفوفها تدين بالولاء الشخصي لزعيمها وتتقاطع مصالحهما مع بعض.
تنامت في ذهنية قيادتها نزعة التفرد وتضخمت إلى حدود فقدانها القابلية أو الاستعداد لقبول رأي مخالف لها.
تراكمت الفردانية والذاتية في النهج والسلوك، فعبرت عن ذاتها بأسلوب لا يمت إلى قواعد العملية الديمقراطية بصلة، حين اعتدى أحد نوابها على زميلة له تحت قبة البرلمان تشاركه المسؤولية البرلمانية وتخالفه الرأي والمعتقد ليس إلا.
تقوقعت على ذاتها الحزبية الضيقة وباتت حبيسة مشروعها الإخواني، ففقدت القدرة على بلورة معادلة وطنية تحت سقف الدستور، الذي ينضوي تحت رايته الجميع، وأسهم ذلك التقوقع على الذات في تراجع وعيها العام بمسؤوليتها الوطنية، وبحواملها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأوصلها إلى حالة من الترهل في فترة زمنية قصيرة لا تتعدى بضع سنوات، فأهملت وظيفتها الاجتماعية كمعيار لسلطتها، التي ادعت أساساً أنها ستجعلها الأولوية القصوى وأنها ستعالج مشاكل الشباب ومتطلبات شرائح المجتمع التونسي على مختلف انتماءاته وتوجهاته.
الهوة بين حركة النهضة ككتلة برلمانية وشريكة رئيسية في السلطة التنفيذية، وبين الشارع التونسي الذي ازدادت معاناته بفعل ممارساتها، تعمقت، فأفصح الناس عن سخطهم ورفضهم لها ولمن يشاركها السلطة، بعد أن أدارت ظهرها لمعاناتهم وأمعنت في تجاهل مطالبات الرئيس قيس سعيد بضرورة الاستماع للناس ومعالجة احتياجاتهم، ويبدو أنها رسمت سيناريوهاتها على معادلة بحدين، الأول تعطيل الحياة السياسية تدريجياً بموازاة تصعيد المناكفات مع القوى الحزبية الأخرى ومع الرئيس “سعيد”، وصولا إلى فرض حالة جمود على المشهد العام في البلاد، واتهام خصومها بالتسبب في ذلك، وهو ما دأبت على إعلانه فعلاً بإلقاء اللوم على الآخرين في كل إخفاق لها.
والحد الثاني مرتبط بالأول كنتيجة حتمية له، وهو تفجر الاحتجاجات الشعبية والاجتماعية، واستهداف رموز وركائز السلطة بمجملها، مما يتيح لها فرصة استثمار هذه الاحتجاجات والفوضى والانقضاض على أركان الدولة التونسية، بما فيها مؤسستا الرئاسة والجيش، اللتان بقيتا خارج هيمنتها الحزبية الإخوانية.
التراكمات السلبية، التي تولدت على مدار السنين القليلة من حكم “النهضة” في مختلف القطاعات التونسية، كانت كفيلة بالتنبه إلى المرامي والأهداف غير المعلنة لبواعثها، مع ضرورة النظر إلى الأسباب الذاتية داخل الحركة، والتي أسهمت في ذلك، ومنها صراعاتها الداخلية والفساد الذي يعتريها، حتى أصبحت عبئا على المشهد العام في البلاد في مستواه الشعبي من ناحية، والسلطوي الرئاسي من ناحية أخرى.
تونس وصلت في الآونة الأخيرة على يد حزب النهضة الإخواني إلى مفترق حاسم، فإما الركون إلى حالة الجمود والتعطيل التي كرستها، مع كل ما يحمله التعطيل من مخاطر على السلم الأهلي والأمن والاستقرار، وإما طريق النهوض من الكبوة وتصحيح المسار بقرارات دستورية محكمة ومحصّنة بمؤسسات دولة راسخة في قوانينها وتقاليدها ومبادئها وخصوصيتها.
مؤشران هامان أعقبا قرارات الرئيس “سعيد”، أولهما داخلي رسمته حالة الهدوء في الشارع التونسي والارتياح داخل الأوساط الحزبية والقوى السياسية التونسية وتفاعلها مع خطوات الرئيس الدستورية وتأييدها، وثانيهما خارجي عبرت عنه مواقف عربية ودولية داعمة للاستقرار في تونس واحترام قراراته وشؤونه الداخلية.
تونس على أعتاب عهد جديد، سياجه القانون، ومضماره وطن متاح لجميع أبنائه دون إقصاء لأحد، أو استبعاد لتيار.