سياسة

لم تفشل الدولة الوطنية.. بل فشلت الإسلاموية


ألم يكن حتمياً تحول ما يسمى “الربيع العربي” إلى صراع هوية تعطل فيه الدولة والمواطنة وتفعل فيه النزعات الطائفية والعرقية التي ما كان لها إلا أن تؤدي إلى تشريد الملايين ومقتل مئات الألاف وتدمير دول وعودة أخرى عشرات السنين إلى الوراء على المستوى الاقتصادي والاجتماعي كما حدث بالفعل. قراءة معمقة لتاريخ العلاقة ما بين الدولة والفكر والمجتمع والثورة والإصلاح في منطقتنا العربية، لا تستطيع إلا أن يكون ردها بالإيجاب على هذا السؤال.

لنأخذ مصر كمثال لتوضيح ما نرمي إليه. فدولة محمد علي قد توازت مع الفكر المصري ولم تتقاطع كثيراً معه رغم أنها هي من أتاحت له فرصة التواجد ووفرت له الرعاية، فالطهطاوي كان مبشراً أكثر منه معبراً عن الدولة والمجتمع كما قيل. ومثل عصر الخديوي إسماعيل تلاقى هذا الفكر مع الدولة بهدف التأثير في المجتمع، فكان على مبارك المفكر المنفذ المعبر عن الدولة والمؤثر في المجتمع بالفكر، في العصرين تم إبعاد الدين عن المجال العام السياسي إلى حد كبير منذ تحجيم محمد علي لدور رجال الدين في السياسة وخصوصا في المجال الدولي، ولكن شهد أواخر عهد إسماعيل وبداية عهد توفيق رجوع رجال الدين للتأثير، متمثلاً في ظهور جمال الدين “الأفغاني” و محمد عبده وتأثيرهما على المجتمع خصوصاً في صفوته وعلى فئة من الجيش، تمخض ذلك عن “الثورة” العرابية والتي عرفت اندماج الفكر بالثورة عن طريق علماء الدين وبمسوغات اجتماعية وسياسية.

بعد اختفاء الأفغاني والنتائج الكارثية للثورة العرابية، ومن أهمها احتلال الإنجليز لمصر، عاد محمد عبده ليقصر جهود رجال الدين على إصلاح التعليم وتثبيت صورة الإسلام المدني العقلاني، و ضرورة إبعاد رجل الدين عن السياسة وعن إقحام الدين فيها. آتت تلك الفترة أكلها في ثورة 1919، و هي اللحظة التي تطابق فيها الفكر مع الثورة المدنية ضد المحتل، ثم الفكر مع المجتمع والدولة إلى حد كبير في الفترة الوفدية.

ثم بعد وفاة محمد عبده، انقسم المشهد الفكري إلى اتجاهين، فأعاد رشيد رضا ومن بعده حسن البنا الفكر الديني المنغلق و المتشدد والذي تتحكم فيه السياسة إلى المشهد السياسي استكمالاً لما بدأه الأفغاني. وأكمل أحمد لطفي السيد وعلي عبد الرازق وطه حسين الطريق الذي بدأه الطهطاوي ومحمد عبده في نهاية حياته، ليعطوا له أبعاداً أكثر حداثية ومدنية. ثم استمر الاتجاهان في التجادل الفكري و التنافس على التأثير في المجتمع و في الدولة حتى عام 1938، العام الذي كشفت فيه جماعة الإخوان المدعومة لوجستيا وماليا عن مشروعهم “الشمولي الحركي الشعبوي التمردي العابر للدولة الوطنية باسم الإسلام”، من هنا بدأ التمزق واستنزاف مكتسبات الدولة المصرية من الإصلاح ومن الحداثة والتنوير و تراكم المعرفة و الخبرات…إلخ. فلقد دخلت حركة الإخوان في عداء مع كل من كان في سدة حكم مصر، وجيشت شريحة وازنة من المجتمع ضد كل مفهوم الدولة الوطنية كعدو لمفهومي الأمة و الخلافة والشريعة بمفهومهم المؤلدج الطائفي.

بناء على المثال المصري يمكننا القول بأن لحظة ما يسمى بالربيع العربي مثلت اللحظة الكاشفة للكامن تحت الرماد “الهوياتي”، فبدلاً من أن نتجادل حول كيفية الإدارة الرشيدة للدولة الوطنية المواطنية وكيفية البناء والتنمية من خلالها، تركزت النقاشات حول أسئلة من قبيل من نحن و كيف وبماذا يجب علينا أن نحكم…إلخ؟ وسمعنا إجابات على تلك الأسئلة تتمحور حول أفكار عابرة لحدود الدولة الوطنية، وظهرت فجأة موجة من المؤلفين والمترجمين الشبان ليترجموا الأعمال المناهضة لمفهوم الدولة الوطنية إلى اللغة العربية. وأسيل الكثير من الحبر بكتب إما تضع الدولة مقابل المجتمع أو مقابل الدين أو الثقافة. و في هذا الإطار يجب فهم “المصري المتعثمن” أو “العربي المتعثمن” الذي يناصر تركيا أردوغان على حساب بلده كما نرى اليوم. و في هذا الإطار أيضا يجب فهم المآلات الكارثية التي كانت محتومة لما يسمى الربيع العربي بوصول من لا يؤمن بالدولة الوطنية لسدة حكمها.

من يحلل كثرة الحديث والتنظير عن نهاية أو فشل الدولة الوطنية العربية أو دولة ما بعد الاستقلال العربية، خصوصا في الأدبيات الإسلاموية والأدبيات الغربية المتعاطفة مع الإسلاموية، يستطيع أن يفهم كيف تربى الإخوان على أن الدولة الوطنية عدو لهم، وكيف اتخذوها عدواً ،وكيف أراد بعض الباحثين المتعاطفين مع الإخوانية عزلنا عن حركة التاريخ بادعائهم فشل أو حتمية فشل الدولة الوطنية العربية عموما، و ذلك بادعاء تناقضها البنيوي بين الرغبة في التخلص من الاستعمار السياسي من جانب والوقوع في نموذجه التحديثي الثقافي “الدولة الوطنية”من جانب آخر. فكتب على سبيل المثال الفرنسي “برتراند بادي” كتاباً روج له الإسلامويون حول “الدولة المستوردة” في الشرق الأوسط، معتبراً أنها شكل مؤسسي مجرد وغريب عن الواقع المجتمعي والثقافي للعرب و للمسلمين، لذلك فمصيرها الحتمي هو التحلل والانهيار. فهي دولة متخيلة تم فرضها قسراً من أعلى على المجتمع والمواطنين، وهذا مكمن فشلها المحتوم. مثل “برتراند بادي” من الباحثين أردوا بتنظيرهم ذلك أن يستكملوا العزلة الحضارية التي فرضها العثمانيون على العرب ولكن بشكل آخر، بسجنهم معرفياً في لحظة زمنية معينة من تطورهم لتأبيدهم فيها واعتبار تلك اللحظة الزمنية كهوية تقارن باللحظة الآنية للثقافة الغربية كأنهم قد ولدوا فيها.

النتائج الكارثية لما يسمى الربيع العربي جعلت حتى المفكر المغربي عبد الله العروي -و الذي تمحور مشروعه الفكري حول فكرة الدولة الوطنية كأُفق لتحديث المجتمعات العربية – يقول متسرعا بأن الدولة تواجه اليوم تحدياً صعباً مع انبثاق مؤشرات تحلل وانهيار هذا النموذج، وأن”المستقبل هو للسلطة القبلية والفيدراليات الهشة.” أختلف مع هذا الطرح وأتفق مع طرح المفكر اللبناني رضوان السيد الذي يقول بأن المجتمع العربي انتقل من مرحلة “الخوف من الدولة” إلى “مرحلة الخوف عليها”. بل إننا انتقلنا من “مرحلة الخوف عليها” إلى مرحلة اعتبار معركة الذود عنها – إبستمولجيا بتفكيك ونقد ومقاومة الهويات المتصارعة مع مفهوم الدولة الوطنية وعلى رأسها الهوية الإسلاموية – مسألة حياة أوموت.

كان للدولة الوطنية العربية هدفان محوريان، الاستقلال الوطني عن الاستعمار، وإنجاز التنمية والتحديث والخروج من الجهل والتخلف الذي فرضه العثمانيون ومن بعدهم بدرجات أقل الاستعمار الغربي. مهما كان النقاش مشروعاً حول المشاكل التي تواجهها الدولة الوطنية في العالم العربي و مدى فاعلية الدولة في اجتيازها، فالواقع أن هذه الدولة نجحت غالباً في مشروع التحديث بدرجات متفاوتة واستقلت كثيرا في معظمها بقرارها الوطني عن الاستعمار كما أكدت لنا رسائل كلينتون، والتي كشفت لنا متانة الدول العربية المؤثرة كمصر والسعودية والإمارات بالرغم من تآمر إدارة أوباما عليها.

 فشلت الإسلاموية إذاً في تقسيم الدولة العربية الوطنية إلى دويلات و لم تنجح إلا في أماكن قليلة ليست في العمق العربي الحالي في تطبيق النمط الفتح-الحمساوي ” كنمط حكم، ليس فيه سلطة واحدة و لا قرار واحد و لا بندقية واحدة و لا اتفاق فيه حتى على كيف نعيش معا، أي أن نكون في”دولة الادولة”،دولة الميليشيات والجماعات ذات الولاء لدول أخرى تحت ستار الدين والطائفة.

نعم هناك الكثير لينجز من قبل الدولة الوطنية التي لم يمسسها أو تلك التي لم يتمكن منها ضر “الربيع” على المستوى الداخلي في المقام الأول، ولكن أيضا نحو الدول العربية التي وقعت في فخ “الربيع” مثل ليبيا و اليمن وسوريا.

الذي يدعو للأمل هو أنه ربما هي المرة الأولى منذ نشأة الدولة العربية، وفي ظل مؤشرات بدايات موت الأيديولوجية الإسلاموية الشمولية، أن تكون الأرض ممهدة لبناء هوية وطنية صلبة ورأس مال اجتماعي متين يحصن المجتمع من مخاطر التفكك على أساس الانتماءات الطائفية والقبلية أو يرتهن الدولة لولاءات عابرة لحدودها. فهناك تصاعد للإيمان بشرعية الدولة الوطنية، بصفتها الضامن الوحيد للسلم الاجتماعي والحاضنة الوحيدة لإمكانية التطور نحو الأفضل “اقتصادياً، و سياسياً، وحقوقياً، واجتماعياً” بل و الحافظة الوحيدة للدين بحيادها معه. الفكر العربي مدعو أكثر من أي وقت مضى لبذل الجهد الكافي للقضاء أنطولوجيا و إبستمولجيا على الهويات التي تصارع الهوية المواطنية.

خلاصة القول إن درس أحداث ما يسمى “الربيع العربي”، لا حرية بلا دولة و لا ديمقراطية بلا دولة ولا مواطن بلا دولة بل و لا إنسان بلا دولة، وأنه لا مستقبل للإسلاموية ولا مستقبل للعربي بلا دولة وطنية مواطنية.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى