عن رؤية بايدن للشرق الأوسط
مع النتيجة التي تَوَصَّل إليها المَجْمع الانتخابيّ الأمريكيّ قبل بضعة أيّام، أصبح جوزيف بايدن الرئيس المنتخب السادس والأربعين للولايات المتّحدة الأمريكيّة من غير منازع أو مشارع.
نحن الآن أمام رئيس جديد وإدارة ديمقراطيّة تحمل فكرًا ورؤية مغايرَيْن لتوجُّهات الرئيس الجمهوريّ السابق، الأمر الذي يفتح أبوابًا للتساؤلات المستقبليّة حول مسيرة الإدارة القادمة وكيف ستمضي.
الأسئلة التي تواجه بايدن داخليًّا وخارجيًّا مثيرة وخطيرة، ولعلّ ما يَهُمّنا بنوع خاصّ في هذه السطور منطقة الشرق اﻷوسط، تلك التي ارتبطت بالحضور اﻷمريكيّ العميق منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية وحتى الساعة.
في مقدّمة علامات الاستفهام: هل حقًّا تنتوي واشنطن الانسحاب من مُربّعات نفوذها الشرق أوسطيّة كما بدا واضحًا من تَوَجُّهات وقرارات الرئيس ترامب والذي سحب غالبيّة الجنود الأمريكيّين من المنطقة، لا سيّما العراق وأفغانستان، ولولا هجمة الديمقراطيين وجماعة الضغط الخاصّة بالنفط لكان الرجل قد انسحب بدوره بالمطلق من سوريا؟
من الواضح أنّ واشنطن، جمهوريّين وديمقراطيّين، لم تَعُدْ تطيق فكرة البقاء كشُرطَيّ العالم ودَرَكِه، وليست على استعداد للدخول في معارك ليست لها، ذلك إنها مهمومة ومحمومة بالصراعات الداخليّة على أشدّها.
يواجه بايدن ولايات أمريكيّة غير متّحدة كما كان الحال من قبلُ. وقد أفرزتْ الانتخاباتُ الرئاسيّة الأخيرة حالةً غير مسبوقة من الشرخ المجتمعيّ، وها نحن نستمع إلى أصوات تعلو من جديد من كاليفورنيا وتكساس، تطالب بالانسحاب من الاتّحاد، وحتّى لو كانت الفكرةُ بعيدةً عن التنفيذ القريب زمنيًّا، إلا أنّها ستتحقّق بشكل أو بآخر في قادم الزمن المتوسّط وربّما قبل 2050.
أمريكا تصارع اليوم جائحةً لم تعرفها الخليقةُ منذ مئة عام، وأكبر الخسائر في البشر وقعتْ بها. وقد كان من الطبيعيّ أن يتعرّض الاقتصادُ بدوره إلى ضربات مُوجِعة، ربّما يحتاج معها إلى عُمْر إدارة بايدن بأكمله للفِكاك من براثنها.
لكنّ ذلك كلّه لا يعني أنّ واشنطن سوف تمضي في اليوم التالي لدخول بايدن إلى البيت الأبيض في تنفيذ مخطَّط للانسحاب الشامل مرّةً وإلى اﻷبد من المنطقة، فهذا أمر لا يتّسق أبدًا واستراتيجيّات الدول الكبرى. ولعلّ بايدن تحديدًا قد تعَلَّم الدرس جيّدًا خلال ثماني سنوات كان فيها نائب أوباما، وأدرك أنّ رؤية القيادة الأمريكيّة من وراء الكواليس لا يمكن أن تنفع أو تشفع، لا سيّما وأنّ هناك خلف أبواب الشرق الأوسط قوّتَيْن دوليتَيْن تتحيّنان الفرصة للانقضاض على العالم القديم، حيث المياه الدافئة حلم القياصرة الروس من بطرس الأكبر وكاترينا العظمية وصولاً إلى فلاديمير بوتين، وهذا من جانب روسيا الاتّحاديّة. أمّا الصين فقد فاقت أمريكا في استخدام ذهب المعز من خلال القروض التي تقدّمها بشكل مُيَسَّر، وسعيها لفتح طرق ودروب جديدة مع دول شمال أفريقيا بنوع خاص، كمدخل إلى العمق الأفريقيّ والذي ولجت إليه من قبلُ بالفعل.
ملفّان رئيسيّان لا بدّ وأن تكون إدارة بايدن شريكًا فيهما طوعًا أو قَسْرًا: المواجهة مع إيران، واﻹشكاليّة الفلسطينيّة.
التخَوُّفات من إدارة بايدن انطلاقًا من فكرة الرجوع الهَيِّن واليسير إلى اتّفاقية نوويّة جديدة مع طهران، أمر يبسط المشهد ويُخِلّ بأدوات التحليل، فعلى الرغم من تصريحات جاك سوليفان، المرشَّح لمنصب مستشار اﻷمن القوميّ عن إمكانيّة عقد اتّفاقيّة جديدة، إلا أن الواقع يخبرنا أن الأزمة مع طهران لم تَعُدْ نوويّة فقط، فهناك البرنامج الصاروخيّ الذي أضحى أكثر خطورةً، وباتت صواريخ إيران تُهَدِّد الجار القريب والدول البعيدة على حَدٍّ سواء.
يُحاجِج محلّلون عسكريّون موثوقون بأنّ إيران تتسبَّب في الخراب والدمار لمن حولها باﻷسلحة التقليديّة، من طائرات مُسَيَّرة مُحَمَّلة بالموت جَوًّا، وبصواريخ مُوَزَّعة على الوكلاء لاستخدامها في أيّ حرب قادمة. وعليه يتساءلون: كيف يمكن أن يُضحِي المشهد إذا امتلكتْ إيرانُ أسلحةَ دمارٍ شامل؟
أغلب الظن أن إدارة بايدن ستواجه الألاعيب اﻹيرانيّة مرّةً جديدة، ولن تقوى على اتّخاذ قرار حاسم مرَّةً واحدة، وإن كان يُحسَب للرئيس القادم بايدن تصريحُه بأنّ أيّ تخطيط مستقبليّ لأزمة إيران لا بدّ وأن يتمّ بالتشاور مع جيرانها اﻹقليميّين وبَقِيّة أصدقاء الولايات المتّحدة. ويُحسَب له كذلك إيجابيًّا تصريحاتُه الرافضة شكلاً ومضمونًا لحيازة إيران سلاحًا نوويًّا.
الملفّ الثاني الشرق أوسطيّ، والذي لا بدّ وأن يكون لبايدن معه وقفة، هو ذاك المتعلّقُ بالقضية الفلسطينيّة، والصراع العربي الإسرائيليّ؛ فقد وَرِثَ الرجلُ من سلفه تعقيدًا واضحًا في المشهد، لا سيّما بعد إغلاق مكتب مُنَظّمة التحرير في واشنطن، وهذا يمكن لبايدن أن يُعيدَ افتتاحَه بقرار رئاسيّ.
عطفًا على ما تَقَدَّمَ، تَبْقَى هناك مسيرة السلام بين الإسرائيليّين ودول عربيّة وشرق أوسطيّة، حيث لا تملك إدارة بايدن سوى أن تكون قُوّة محرِّكة دافعة وإيجابيّة، وفي محاولة لتخفيض حِدَّة الصراعات التي تُؤثِّر على نفوذ واشنطن في الشرق اﻷوسط بشكل مُؤَكَّد.
ولعلّ الملفَّ الذي يُسبِّب إزعاجًا مُؤَكَّدًا لمنطقة من إدارة بايدن القادمة هي رؤيتها لجماعات الإسلام السياسيّ ودوائرها، والتّخَوُّفات من أن يكون الرجل امتدادًا لسيرة أوباما.
هنا نستطيع الرجوع إلى تصريح لبايدن، أشار فيه إلى أنّ إدارته لن تكون ولاية ثالثة أو امتدادًا لإدارة أوباما، فيما صَرَّح رجلُه المرشَّحُ لوزارة الخارجيّة أنتوني بلينكن بأن رؤيةً جديدةً تسود إدارة بايدن، تتعامل مع الحاضر وليس الماضي.
والمُؤكَّد أنّ الخوف المُغالَى فيه من تكرار تجربة أوباما مع الإسلامويّين أمر مجافٍ ومنافٍ لحركة الطبيعة، فلم تَعُدْ المنطقة بعد عقد من الربيع العربيّ المغشوش كما كانت، ولا الجماعة بعد الضربات التي تَلَقَّتْها أضحت كما كانت عليه عشيّة إحراق البوعزيزي في تونس نفسه، والتاريخ لا يتوَقَّف وجدليّته لا تنتهي.
ما الجديد في إدارة بايدن؟
رُبّما هناك أحاديث بدأت تتسرّب على خجل، تميط اللثام عن رؤية أمريكيّة لدول الشرق اﻷوسط وفي القلب منها مصر وإسرائيل، اﻷردن ولبنان، لاستغلال مياه البحر اﻷبيض المتوسّط ومخزوناته من الغاز، ومن ثمّ رفد أوروبا بهذه الطاقة المهمة، طاقة القرن الحادي والعشرين، بهدف قَطْع الطريق على تهديدات روسيا لأوروبّا الغربيّة، وهذه قصّة أخرى ينبغي أن نلقي عليها بأضواء كثيرة عَمّا قريب.
إلى قراءةٍ أخرى بإذن الله.