سياسة

عن المواجهة المحتملة بين تركيا واليونان


هل باتت المواجهة حتمية بين اليونان وتركيا؟ سؤال بات يطرح نفسه بقوة على وقع الحرب الكلامية بين الجانبين، وتطورها إلى اجراءات وتحركات عسكرية في بحري المتوسط وإيجه، ولاسيما أن استئناف تركيا التنقيب عن موارد الطاقة بالقرب من الجزر اليونانية زاد من وتيرة المؤشرات التي تنذر بالصدام بينهما، ولعل ما يدفع إلى الاعتقاد بوقوع مثل هذا الصدام، هو الاستراتيجية الهجومية التي يتبعها أردوغان، وهي استراتيجية تشعل المزيد من النيران بالخلافات التاريخية بين البلدين، خلافات كثيرة تتعلق بالحدود، والمياه الإقليمية، والجزر البحرية، والأقليات القومية والدينية، والمجال الجوي، وقبرص، وآيا صوفيا… خلافات قديمة – متجددة، أبقت النار تحت جمر التاريخ، ولهيب التشاطئ الجغرافي، والسفن الغازية عبر البحار، واختلاف الأيديولوجيات، كل ذلك في وقت لا يتوقف فيه أردوغان عن استدعاء الذاكرة التاريخية، شاهرا عثمانيته المغمسة بالغزو والدم، إلى درجة أن اليونان وأوروبا باتوا ينظرون إلى تركيا على أنها الإمبراطورية العثمانية وليست الجمهورية التركية التي أسسها أتاتورك، تلك الجمهورية التي وقفت لأكثر من نصف قرن على أبواب العضوية الأوروبية، وسعت جاهدة إلى التماهي مع القيم الأوروبية الثقافية والحضارية، فلسان حال أردوغان يقول لليونان ومن خلفها أوروبا: إما القبول بما تريده تركيا من نفوذ وهيمنة في المتوسط وإيجه، أو أن سفننا ستبحر إلى حيث تصل حتى لو كانت جزر يونانية خالصة، رافعة العلم التركي في تأكيد على أن الهدف الأساسي لأردوغان يتجاوز البحث عن الطاقة إلى السياسة وأحلامه التوسعية. اليونان التي أدركت خطورة نهج أردوغان، استعدت للمواجهة جيدا، ورفعت من سقف خطابها السياسي والعسكري، ونشرت بوارجها، واستنفرت طائراتها الحربية وقواتها العسكرية، مطالبة الأوروبيين بالوقوف إلى جانبها في مواجهة التهديد التركي، وبالتزامن مع هذا الاستعداد عقدت أثينا اتفاقا مهما مع القاهرة لترسيم الحدود البحرية بينهما، وهو اتفاق شكل ضربة مزدوجة لاتفاق أردوغان – السراج أولا. وثانيا للعقيدة التي طرحها أردوغان والمعروفة بالوطن الأزرق، وهي عقيدة يريد أردوغان منها السيطرة على المتوسط، وقد سبق الاتفاق اليوناني – المصري، عقد اليونان اتفاقية مماثلة مع إيطاليا، كل ذلك، في ظل موقف فرنسي يتصاعد في وجه سياسة أردوغان الاستفزازية، وإحساس أوروبي بتصاعد خطر أردوغان، ولاسيما في ظل لجوئه الدائم إلى ابتزاز أوروبا بقضية اللاجئين، ومؤخرا قضية المرتزقة الذين تنقلهم إلى ليبيا، بما يشكل ذلك تهديدا مباشرا للمصالح الأوروبية في أفريقيا والمتوسط.

اليونان التي أعلنت حرب الاستقلال ضد الاحتلال العثماني عام 1821، تدرك أنها تجاور جارا صعبا منذ ترسيم الحدود بينهما بموجب اتفاقية لوزان عام 1923، وتعرف أن العلاقة مع هذا الجار محفوفة بالمخاطر، ولاسيما بعد احتلال تركيا لشمال قبرص عام 1984، واليوم مع إصرار أردوغان على سياسته الاستفزازية، باتت مقتنعة بأن الأخير لا يفهم إلا لغة القوة، ومع هذه القناعة اليونانية، ثمة قناعة تتشكل في عموم أوروبا بأهمية رفع العصا الغليظة في وجه أردوغان بعد أن فشلت سياسة العقوبات الشكلية في إيصال الرسالة المطلوبة للسلطان العثماني الجديد، وردعه عن مشاريعه التي تمس جوهر الأمن الأوروبي، فالقضية هنا، لا تتعلق باليونان وحدها بل بمجمل أمن القارة الأوروبية، إذ أن مشاريع أردوغان مع السراج في البحر المتوسط تحول المتوسط إلى قاعدة لابتزاز أوروبا باللاجئين والإرهابيين والمرتزقة، كما أن خلافاته مع اليونان تتجاوز قضية البحث عن الطاقة إلى مصير جزر ومناطق بحرية يونانية تعدها تركيا ملكا لها، على أساس أنه تم انتزاعها منها وفقا لاتفاقية لوزان، وربما لهذا السبب رفضت تركيا الانضمام إلى الاتفاق الدولي لقانون البحار حتى الآن، بل وانتقدته مرارا. أردوغان الذي وتر الأجواء في المتوسط وإيجه، استفاد من تراخي أوروبا وانقساماتها حتى الآن، وهو في تصعيده مع اليونان بحثا عن أحلامه وطموحاته العثمانية، يرصد الموقف الأمريكي قبل الأوروبي، وهو في قرارة نفسه يدرك أن حسابات أمريكا من الصدام التركي – اليوناني الأوروبي تتجاوز البعد الثنائي في علاقة عضوين في الحلف الأطلسي إلى الاستفادة الروسية من هذا الصراع، وعليه يصعد تارة عبر إرسال السفن إلى الجزر اليونانية وانتهاك سيادتها على هذه الجزر، وتارة أخرى يدعو إلى الحوار من أجل الوصول إلى توافق بشأن المصالح الإقليمية بحثا عن نفوذ ودور، وهو في حركته المكشوفة هذه، قد يلجأ إلى الاختبار بالقوة لمعرفة الموقف الأوروبي من الصراع مع اليونان، حيث يرى أن الموقف الأوروبي وكذلك الأمريكي سيكونان المقياس لتطور الموقف التركي تصعيدا أو تفاوضا، لكن الثابت أن الاختبار التركي هذا، قد يكون مدخلا لشرارة مواجهة جديدة مع اليونان لا يعرف أحد كيف ستنتهي أن بدأت.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى