سياسة

عن “إخوتنا غير المتوقعين”


حين صدرت الإمارات للعالم وثيقة الأخوّة الإنسانية في فبراير/شباط من عام 2019، تلك الوثيقة التي مهرها بتوقيعه كل من بابا روما وشيخ الأزهر كانت النية الصادقة هي محاولة استنقاذ البشرية من المصير المظلم السائرة على دربه.

على الجانب الآخر كان الأديب الفرنسي الجنسية، اللبناني الأصل أمين معلوف، يعمل على إنهاء روايته الإبداعية الجديدة، “إخوتنا غير المتوقعين”.

ولعل المتابع لأمين معلوف منذ نهاية تسعينيات القرن المنصرم يدرك أن هذا المبدع قدم من قبل ثلاثية القرن الحادي والعشرين، باعتبار أن ما قدمه أديب نوبل الكبير نجيب محفوظ في ثلاثيته الخالدة السكرية، وبين القصرين، وقصر الشوق، كان إبداع القرن العشرين. 

عاش أمين معلوف ولا يزال مهموما ومحموما بمآلات البشرية المرتبكة في حاضرات أيامنا، والتي لم تعد تقدر لأرجلها قبل الخطو موضعا أو موقعا، ولهذا جاد على قرائه أولا بـ”الهويات القاتلة”، ومن بعدها توقف عند “اختلال العالم”، وربما لأنه لم يجد صدى على أرض الواقع لتحذيراته، أطلق صيحته قبل الأخيرة المتمثلة في “غرق الحضارات”.

 على أن معلوف وعلى درب غرامشي، مثقف عضوي، وعنده أنه في مقابل تشاؤم العقل يبقى تفاؤل الإرادة، ومن هنا جاء عمله الإبداعي الأخير “إخوتنا غير المتوقعين”.

يحتاج الحديث عن رواية أمين معلوف الأخيرة المليئة بالإسقاطات والرموز الدالة على مأساة البشرية المعاصرة، إلى كثير من الحبر على الأوراق. 

الرواية جاءت على شكل أجندة يومية يدون صاحبها الرسام ألكسندر أحداث ما يجري من حوله، فيما يعيش في حالة عزلة مع العالم الخارجي على أرض جزيرة “أنطاكيا”، والتي لا يشاركه فيها غير روائية غير ودودة اسمها “إيف سان جيل”، والتي لم تصدر سوى رواية واحدة اسمها “لم يعد المستقبل يسكن هذا العنوان”، وهي رواية قد أكسبتها شهرة واسعة بين تيارات الشباب المعولم، والذي فقد الثقة في مسيرة البشرية، وبخاصة بعد أن اختفت الرموز الإنسانية الكبيرة من مفكرين وفلاسفة كانت لهم أبدا ودوما القيادة الفكرية. 

باختصار غير مخل، تبقى عقدة الرواية في لحظة انقطاع الإنترنت عن الجزيرة، وقد كان ألكسندر يعتمد عليه في إرسال رسوماته، التي يتعيش منها إلى العالم الخارجي، وتصل به الظنون حد توقع أن حربا نووية قد انطلقت حول العالم، ولهذا لم تعد هناك أدوات اتصال، ولكنه لاحقا سيفاجأ بأن إخوة في الإنسانية غير متوقعين، يستحضرهم معلوف من زمن ما يطلق عليه المعجزة الإثينية، هم الذين استنقذوا البشرية من الدمار الشامل الذي كاد يحل بهم. 

من أنقذ العالم الذي كان على شفا حفرة من تبادل الصواريخ الباليستية، وتحويل العالم إلى رماد، والدخول بالخليقة أو بمعنى أكثر دقة، من تبقى منها إلى زمن الشتاء النووي المهلك للزرع والضرع؟

أحد أصدقاء ألكسندر، مورو، المستشار المقرب من الرئيس الأمريكي “هاورد ميلتون”، يخبره بأن هناك جماعة مجهولة تسمع وتراقب البشر، بل وترصد تحركاتهم، وهي التي تدخلت لمنع وقوع الكارثة النووية، والأكثر إثارة في المشهد هو أن البشرية لم تعد قادرة على القيام بأي حركة من دون موافقة تلك الجماعة، وغموضها يسبب قلقا كبيرا للبشر، إذ لا يدري أحد من أين جاءت ولا كيف تعمل أو تنتوي في المستقبل القريب. 

هنا يجد القارئ نفسه أمام رؤية ضبابية مزدوجة للمستقبل، يسقطها معلوف عمدا على حال البشرية، الأولى تشير إليها “إيف سان جيل” في روايتها، ذلك أن القول بعدم سكن المستقبل في هذا العنوان، يعني أن كوكب الأرض بات من غير مستقبل، فيما الرؤية الثانية يستدل عليها من خروج القرار من بين يدي البشريين إلى قدرة الجماعة الغامضة التي حالت دون وقوع الحرب النووية بين الدول الكبرى. 

التفكير الأولي الذي يذهب إليه عقل القارئ، هو أن تلك الجماعة ليست بشرية، وهو أمر يتسق وما تردد كثيرا في أفلام الخيال العلمي، وكتاب هذا النوع من الأعمال، حيث ظهر الفضائيون بوصفهم من يقف ليمنع المزيد من الشرور على الكوكب الأزرق، وأول وأكبر، بل أخطر وأهول تلك الشرور، الحرب النووية .

لكن المفاجأة التي اعتملت في ذهن معلوف مفادها بأن الأمر لا علاقة له بسكان الكواكب الخارجية، وأن من جنب البشريين ويلات الدمار الشامل، هم بشر مثلهم، لكنهم يعودون إلى أصول إغريقية قديمة، أطلق عليهم معلوف اسم “أصدقاء امبيدوكليس”، وهم أحفاد الأثينيين القدماء، تلك الحضارة التي قدمت للعالم فلسفة وفكرا وتنويرا، طبا وثقافة، أدبا ومسرحا، كتبا خالدة وملاحم كالإلياذة والأوديسة وما نحوهما الكثير. 

 هؤلاء الأحفاد فضلوا على حسب تعبير معلوف البقاء في الظل وحمل النور في داخلهم، عن البقاء في النور والظل يسكنهم، وقد غادروا اليونان حين انتهت حضارة خالدة في عقود قليلة، لا يحملون سوى “مضمون نفوسهم”.

جماعة “امبيدوكليسس”، سكنوا مدينتهم اليوتوبية البعيدة عن صراعات البلهاء، حيث الموت يضحى عادة، والجوع يصبح آفة، والمرض يتحول أوبئة، ومن غير قدرة على مواجهة الألم، ولهذا اختاروا السير بعيدا والاختفاء عن الأعين التي تبصر فيما تعتاز إلى البصيرة، ولهذا تركونا إلى حال سبيلنا نتقاتل ونتصارع، ويخرج علينا من يزعم أن الصراع الحضاري هو قدر مقدور في زمن منظور، وأن الإنسانية وصلت إلى نهايتها، مصادرا بذلك حركة التاريخ، وكأنها ردة جديدة إلى أزمنة الفاشية والنازية غير البعيدة عن كوكبنا المتألم .

لماذا جعل معلوف من هذه الجماعة التي استحضرها من بطون التاريخ وقبل 2500 سنة محور القصة الحقيقي في تقدير صاحب هذه السطور؟

 أغلب الظن أن الرجل المبدع أراد أن يفتح عيوننا على المثال الحي الذي يمكنه أن ينتشل البشرية من وهدتها الآنية، ذلك أن تلك الجماعة قدمت للبشر طبا متقدما، ومستشفيات عائمة، الأمر الذي يمثل حاجة الإنسانية الحقيقية للخلاص من وهدة هلاك الجائحة. 

 معلوف قدم رسالة مبطنة لقادة العالم ومفكريه ومبدعيه، وهي أن لا شيء يساوي في حضارتنا المعاصرة، مثلما تساوي جهود العلم والعلماء، التفكير والمفكرين القادرين على ترتيب وتدبير أمور البشر، وأن بقية آليات المنظمومة الرأسمالية النرجسية غير المستنيرة لا فائدة منها ولا طائل يرجى من ورائها، ما تبين من مواجهة كوفيد-19 .

 هل ننتظر إخوة غير متوقعين، أم نبادر إلى إخوة في الإنسانية حاضرين وظاهرين لمداواة اختلال العالم وتجنب غرق الحضارات وإنهاء أزمنة الهويات القاتلة؟

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى