سياسة

عندما يُفلسُ المثقف!


هل مَن يتصدرون المشهد الثقافي والإعلامي مثقفون؟ أم شُطّار يتخذون الثقافة حرفة ومهنة و”سبوبة”؟.

سؤال مشروع؛ لا تجاوز فيه، فمن حق أي إنسان أن يثير هذا السؤال في ظل حالة الفوضى القيمية، والأخلاقية، والعبثية الثقافية التي تشهدها مجتمعاتنا، بينما المثقفون مشغولون بمعارك صبيانية؛ غايتها خدمة الأنا المتضخمة، الممتلئة بالفراغ، والحفاظ على النجومية والظهور، وإثارة الانتباه، حتى ولو بتفجير قضايا خرافية، أو هامشية تشغل الجماهير عن مشاكلها الحقيقية، وتشتت انتباهها، وتحقق فيها ما تحققه حروب نشر الشائعات، والتسميم الثقافي المنظم، وإرباك الرأي العام، وخلق حالة من البلبلة تحول دون توحيد الجهود صوب مشروع وطني جامع، يحقق النهوض الحضاري المنشود.

المثقف هو إنسان يملك من الدراية والوعي ما يجعله حاملاً لهموم مجتمعه، منشغلاً بإصلاحه، وتطويره، والارتقاء به، هو قائد للجماهير في مكانه وزمانه، يعلمها، ويبث فيها الوعي الإيجابي بواقعها، وبالتحديات التي تواجهها، ويرشدها إلى طرق الخلاص من الأزمات، ومسالك الرقي والتقدم في مضمار الحضارة، هذا المعنى للمثقف قدمه للعالم المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو جرامشي الذي توفي ١٩٣٧م، وقبله قدمه للعرب عالم اللغة جمال الدين بن منظور الافريقي صاحب “لسان العرب”، توفي ١٣١١م، حين عرّف الإنسان المثقف فقال: “الثقف، أي المثقف، هو إنسان فطن ثقف، أي ثابت المعرفة بما يحتاج إليه”. أي أن المثقف هو الذي يعرف ما يحتاج إليه في زمانه ومكانه، وهذه المعرفة لا بد أن تكون ثابتةً راسخةً.

هذا المعنى للمثقف أصبح في عصرنا ومصرنا حدثاً تاريخياً -في ذلك العصر- وكان للدولة دور في نشرها وتنميتها والحفاظ عليها، وكانت لوزارة الثقافة قيادات مثل ثروت عكاشة رحمة الله عليه؛ كان المثقف طليعة للجماهير، كان يفني عمره لتنوير عقولها، وتمهيد طريق نهوضها، وتقدمها ورقيها، أما مثقفو عصر الانفتاح وما بعده فقد أصبحوا “تجار شنطة”، يبيعون هواياتهم في “سوق الثقافة”، الذي تباع فيه مواهب متوسطة، وإنتاج عقلي يتناسب مع منتجيه ومستهلكيه، تراجعت الثقافة بنفس مستوى تراجع المجتمع على المستويات كافة، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم من ارتباك، وفوضى ثقافية عارمة، لا تتناسب مع موقع مصر، ولا مكانة مصر، أصبح المثقفون الحاملون للجنسية المصرية يأتون في الصفوف المتأخرة في العالم العربي، ناهيك عن العالم، وظهرت طبقة من “المؤلفة جيوبهم” الذين يعيشون على حساب صحف، وقنوات فضائية، ومراكز أبحاث، يسوقون أهدافها، ويحققون مصالحها؛ مستغلين ما لديهم من مهارات بهلوانية، أو فهلوية.

ثم تدهور الحال أكثر وأصبح كثير من المثقفين يقومون بدور هدّام في المجتمع، ومربك للدولة، يثيرون من الأزمات أكثر مما يقدمون من الحلول، أصبح دورهم تشتيت المجتمع، وإرباك مؤسسات الدولة، فقط لأن الواحد منهم خطرت على رأسه الصغير فكرة، فحولها إلى تصريح صحفي، تتلقفه صحافة البوم والغربان في العواصم التي تناصب مصر العداء وتسعى لخرابها، وتنفخ فيه حتى يصل إلى كل أطراف المجتمع، فيربك الناس، ويثير الخلافات، ويفجر المشكلات، ويضاعف التشققات والشروخ الاجتماعية التي توشك أن تؤدي إلى تفكك وانهيار البناء الاجتماعي المصري، وقد سهل الأمر على هؤلاء توافر وسائل التواصل الاجتماعي التي تمكن الواحد منهم من تحريك بر مصر وهو جالس في مقهى في إسطنبول.

وبحس الفهلوي البهلوان أدرك المثقف المفلس أن هناك قضايا حينما تثار تصنع النجومية، وتخلق حالة من الجدل والنقاش؛ والصراع يجعله علماً مشهوراً، فأحياناً يثير قضية دينية لا يعرف منها أو عنها إلا القشور، وأحياناً يستهدف قطاعاً اجتماعياً معيناً يستثير ردود فعله الغاضبة، وبالأمس القريب تطاول أحد هؤلاء المفلسين على قلب مصر، وروحها المتوهجة الموقدة، التي تمثل نار الخلود الدائم للوجود المصري عبر الخمسة آلاف سنة. رحمة الله على المفكر الكبير الدكتور لويس عوض الذي قال “إن الصعيد يمثل المخزون القيمي لمصر، كلما ضعفت قيمها أمدها الصعيد بمدد من القيم يجدد وجودها ويرتقي بشعبها… إلخ”.

إن تطاول المثقف المفلس على قلب مصر وعمقها التاريخي ليس سقطة ولا غلطة، وإنما هو قمة جبل الجليد لحال البؤس الثقافي التي تعاني منها الطبقة الثقافية في مصر، خصوصاً من تصدروا المشهد الإعلامي، واحتلوا مواقع بالوراثة لا بالجدارة أو الاقتدار أو المنافسة النزيهة. هؤلاء الذين تسبق ألسنتهم عقولهم، تخصص لهم الساعات في وسائل الإعلام لتفريغ كل عقد النقص والأمراض النفسية التي تحملها بعض النخب البعيدة كل البعد عن روح مصر وقيم شعبها، والتي تتعالى بدون ميزة أو جدارة على باقي المجتمع، تحتقر بعضه، وتنتقص من قدر البعض الآخر، وتنشر ثقافة تنال من بعض المهن، وتنال من شرف مجتمعات كبيرة.

ما لا يعرفه ذلك المثقف المفلس أن أهل الصعيد يقدسون نساءهم، ويعاملون بناتهم كالأميرات، يختزنون فيهن شرفهم وكرامتهم، ومَن يمسهن لا علاج له إلا الدم. ليت هذا المفلس اطلع على وصف وتحليل المفكر القومي الراحل الدكتور عصمت سيف الدولة رحمة الله عليه؛ لوضع ومكانة المرأة في الصعيد؛ الذي جاء في سيرته الذاتية التي نشرتها دار الهلال في جزأين “مذكرات قرية” و”مشايخ جبل البداري” ليتعلم كيف يتعامل مع عمق مصر التاريخي والجغرافي.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى