سياسة

علاقات الظل.. قطر وإسرائيل تاريخ من الشراكة والتطبيع


في يونيو من العام 1995، كان الشيخ خليفة آل ثان، أمير دولة قطر، يستعد لمغادرة الدوحة متجهًا لقضاء عطلة في سويسرا. بدا وداعه في مطار الدوحة عاديًا وقد جُمع زمرة العائلة الحاكمة لوداعه فردًا فردًا. وعلى نفس الاعتياد ظهر توديع ابنه وولي عهده الشيخ “حمد بن خليفة”، ملوحًا بيده.

وفور مغادرة الأب “خليفة آل ثان”، شرع الابن الشيخ “حمد” في تنفيذ مخططه فورًا. أمر القوات بالسيطرة على القصر والمطار، اتصل بوالده ليخبره بأن الأمور انتهت، فأغلق الأب الخط في وجهه. وفي خطاب متلفز، في الـ 25 من يونيو 1995 أعلن الشيخ “حمد بن خليفة آل ثان” نفسه حاكمًا جديدًا للبلاد. بعدها بث التلفزيون القطري لقطات تظهر افرادًا من أسرة آل ثاني يبايعون الأمير الجديد. 

وعن هذه المبايعة القصيرة والجافة، أوضح المتحدث الرسمي للمعارضة القطرية “خالد هيل”، أن الاعتقاد السائد بأن الشعب القطري فرح جداً بوصول الشيخ حمد للسلطة خاطئ. ونوّه أن 90% من الأشخاص الذين عاصروا تلك الحقبة يؤكدون أن المبايعة تمت من دون علمهم، حيث أقفلت السلطات طرقات الدوحة، وحوّلت سير الناس إلى الديوان الأميري، حيث دخل الناس غير مدركين لما يحصل، فوجدوا أنفسهم يبايعون الشيخ حمد.

وبحسب هيل، يمكن عند مراقبة الفيديوهات والصور بدقة التثبت من أن الناس بالفعل لم يكونوا يدركون ما الذي يحصل. وكان القطريون مجبرين على المبايعة، لأن سلطات الدولة كان بيد الشيخ حمد.

لم يكن وصول الأمير السابق لدولة قطر الشيخ “حمد بن خليفة” للحكم عبر الانقلاب على والده جديدًا في المشهد السياسي القطري حديث الولادة، بل جاء الوصول للأمير السابق على نفس نمط من سبقوه للحكم حتى والده ضحية انقلاب عام 1995.

إلا أن أنماط السياسة الخارجية القطرية بعد انقلاب الشيخ حمد فارقت كثيرًا ما كان في السابق، وانجرفت لأدوارِ أوسع في محيطها، لا تتماشى مع الحجم الإمارة الصغيرة ومقدراتها وسماتها الجغرافية وجذورها التاريخية. حيث تغير وجه قطر منذ ذلك التاريخ، ووٌليّ وجه الدوحة شطر محاور سياسية دخيلة على المنطقة وتُعد معول هدم لميزان القوي التقليدي الذي تقوم عليه منظومة الأمن الإقليمي بما يمنع أو يُعطِّل – على أقل تقدير – من اندلاع الحروب المباشرة وبدء سيناريوهات من حالات عدم الاستقرار والاضطراب السياسي والأمني في منطقة تعتبر من محركات الأحداث في السياسة العالمية.

صُمِمَ الوجه الجديد لقطر منذ اللحظة التي غادر فيها الأب ” خليفة آل ثان” مطار الدوحة، وهدف التصميم لإيجاد دور مزدوج للإمارة الصغيرة، من خلال:

 السعي لضمان الاحتفاظ بالحماية الأمريكية، عبر توقيع اتفاق للتعاون الدفاعي مع الولايات المتحدة بعد الانقلاب بنحو ستة أشهر وتحديداً في العام 1996، تم بموجب الاتفاق بناء قاعدة “العديد” الجوية بتكلفة تزيد عن مليار دولار أمريكي. وتحولت قطر المضيف الرئيسي للقوات الأمريكية في المنطقة ولاسيما بعد الهجوم الإرهابي الذي وقع بالمركز السكني للوحدات الأمريكية في “الظهران” بالسعودية عام 1996.

وحظيت القاعدة بأدوار عملياتية كبرى في سلاسل القيادة الأمريكية المُركّبة لوحداتها المنتشرة عبر أنحاء العالم، إذ استضافت مقر قيادة العمليات الخاصة الأمريكية الوسطي. وفي العام 1999 قال أمير قطر – حينذاك – الشيخ حمد بن خليفة، إنه يود أن يرى ما يصل إلى 10 آلاف ضابط وجندي أمريكي متمركزين بشكل دائم في القاعدة.

تأسيس شبكة قنوات الجزيرة القطرية، وذلك بعد انقلاب الشيخ حمد بن خليفة بنحو خمسة أشهر فقط. وسعت قطر من خلال قنوات الجزيرة لترسيخ قوتها الناعمة في محيطها العربي والإسلامي عن طريق انتهاج سياسة تحريرية “قومية عربية” تُعادي فيها الولايات المتحدة وإسرائيل. وتساند القضية الفلسطينية وتخاطب الوعي الجمعي العربي وخاصة في البلاد العربية الرئيسية الأربع (مصر – السعودية – العراق – سوريا). ونجحت الشبكة في تحقيق أهدافها الأولية في تحشيد ملايين في المنطقة العربية وراء أفكارها التي تبدوا ظاهريًا مساندة “لمظلوميات الشعوب” وباعثة على الإجماع العربي وإنهاء الفُرقة. فضلاً عن نجاح الدوحة في هذه المرحلة الأولية التي امتدت من 1996-2003، في ترسيخ القوة الناعمة للدوحة واختراق الوعي الجمعي العربي وبدء التحكم في انطباعاته ومواقفه بما يخدم مصالح الدوحة وشركائها من القوي الإقليمية الغير عربية.

بدء واحدة من أولى تجارب ونماذج “التطبيع” مع إسرائيل. وللمفارقة؛ كانت قضية التطبيع مع إسرائيل من أولويات الأمير الجديد – وقتها – “حمد بن خليفة”. حيث بدأت الإجراءات التنفيذية لإرساء قواعد وقنوات اتصال وارتباطات مشتركة بين قطر والدولة العبرية باكرًا، وقبل البدء في السعي للاحتفاظ بالحماية الأمريكية وإنشاء شبكة قنوات الجزيرة.

مرحلة العلاقة الوظيفية والتطبيع الخفي (1996-2013)

 فبعد مدة وجيزة من انتهاء حرب الخليج الأولى عام 1991، كان موقف قطر “متميزاً” من إسرائيل قياساً بجيرانها، إذ أعربت عن رغبتها في إعادة النظر في سياسة المقاطعة العربية إذا جمدت إسرائيل البناء الاستيطاني. ثم بعد “أوسلو” 1993 أُحرز مزيد من التقدم بين الجانبين وخفّت حدة “النغمة العدائية” في الإعلام القطري، بل نوقشت خيارات التعاون الاقتصادي البيني والغير مباشر عبر سلسلة من الاجتماعات المشتركة. وفي أواخر 1994، التقى نائب وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، يوسي بيلين، السفير القطري لدى واشنطن، عبد الرحمن بن سعود. وفقاً لبيلين، أكد عبد الرحمن أن الإمارة “ستكون سعيدة بالتعاون والمساعدة في العملية السياسية. في تلك المرحلة، شارك أمير قطر، حمد بن خليفة، في “أوسلو 2″، لتقام علاقات تجارية مع إسرائيل مع اعتراف بحكم الواقع بوجودها. كما شارك ممثل عن حكومة قطر في جنازة رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين.

إلى أن بدأ التأسيس للعلاقات مع إسرائيل رسيمًا وبعد أشهر من التنسيق الخفي، في إبريل من العام 1996. فكان أول قرار اتخذه الشيخ حمد بن خليفة، بعد خطاب تنصيبه المتلفز، هو فتح مكتب تمثيل المصالح الإسرائيلية في الدوحة. وفي إبريل من ذات العام زار رئيس الحكومة الإسرائيلية وقتها شمعون بيريز قطر وافتتح مكتب تمثيل المصالح الإسرائيلية. لتصبح الدوحة العاصمة الخليجية الوحيدة التي سمحت بحضور مسؤول إسرائيلي دائم في أراضيها.

اللافت في زيارة “بيريز” كان الاستقبال الرسمي الكامل الذي حظي به في مطار الدوحة، إذ تَضمّن التحية العسكرية ورفع العلم الإسرائيلي وعزف الفرقة الموسيقية العسكرية القطرية النشيد الوطني للدولة العبرية “هتكفا”. كان ذلك بالتزامن مع بث قنوات الجزيرة لبرامج وفقرات إخبارية تنتهج خطًا تحريريًا معادِ لإسرائيل.

وبالرغم من زيارة “شيمون” وما شملتها من تأسيس أطر التعاون إلا أن العلاقات الدبلوماسية لم تظهر للعلن، رغم وجود عدد من الاجتماعات السرية بين الجانبين تلت زيارة بيريز. ووفق إيلي أفيدار، الذي ترأس البعثة الإسرائيلية من 1999 إلى 2001، عملت البعثة بوصفها سفارة، حتى وإن لم يُسمح لها برفع العلم الإسرائيلي أو وضع لافتة عند مدخل مبناها.

ومنذ ذلك الوقت، تعاقبت زيارات كبار المسؤولين الإسرائيليين ومن بينهم وزيرة الخارجية تسيبي ليفني عام 2008.

ومن أحد المراجع الثرية لتأريخ تلك الفترة من تاريخ العلاقات والارتباطات بين الدوحة وتل أبيب، يأتي كتاب ” قطر وإسرائيل – ملف العلاقات السرية”. للدبلوماسي الإسرائيلي سامي ريفيل والمنشور عام 2011 والذي ذكر فيه أن الحكومة القطرية ذللت كافة الصعاب وقدمت تسهيلات كثيرة للجانب الإسرائيلي من قبل مسئولين قطريين كبار وشركات قطرية كبرى، مؤكدا على أن قطر لعبت ومازالت دور الجسر المعلق بين إسرائيل والمنطقة العربية واصفا إياها بصندوق البريد السريع.

وفي هذه المرحلة وُظِفَت قطر في تحشيد و “تدجين” الملايين من قاطني المنطقة العربية وراء خطابها الإعلامي، بشكل عزز من مصداقية الدوحة ومواقفها من الأحداث التحولات السياسية والاجتماعية والعسكرية. والإبقاء على تطبيع خفي مع إسرائيل مع تجنبها ألّا تفرط في تحدي النظرة التقليدية للعالم العربي في ذلك الوقت تجاه إسرائيل. مع استمرار دفقها للدفعات النقدية لتمويل حركة حماس، تحت أعين الاستخبارات الإسرائيلية التي سمحت بوصول هذه الدفعات المالية وعدم التضييق على مساحة التحرك القطري مع حماس لطالما عزز ذلك من حالات الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني.

من التطبيع للشراكة الحقيقية (2013-2020)

منذ أن بدأت موجات ما يُسمي “بالربيع العربي” أواخر العام 2010، انتهجت قطر سياسة خارجية تتمحور حول تقديم مختلف الدعم لحركات الإسلام السياسي وتنظيماتها المسلحة، وبما في ذلك التنظيمات الإرهابية طبقًا لقرارات مجلس الأمن. وتحول الخط الإعلامي لشبكة قنوات الجزيرة من الصبغة “القومية العربية” لـ “الأممية الدينية” ولاسيما تلك التي تتطابق مع مشروعي تركيا وإيران في المنطقة. وعليه؛ ناصبت الدوحة العداء للدول الوطنية العربية، ومؤسساتها العسكرية والأمنية، وازكت الاقتتال والتناحر الطائفي والعرقي في مختلف بؤر الصراع، دون أن تتخلى قطر عن نمط “الازدواج” في أدوارها الخارجية.

فهي في اليمن ضمن الهيكل التنظيمي لتحالف دعم الشرعية، وفي الوقت ذاته تقدم الدعم المالي والتسليحي لجماعة الحوثي الموالية لإيران. وفي سوريا، تتولى قطر إدارة تمويل التنظيمات المسلحة والإرهابية التي تستهدف النظام السوري ومؤسساته، وكذا الأهداف الإيرانية؛ وفي الوقت ذاته، تقدم قطر دعمًا سياسيًا سخيًا لإيران وتذهب لترسيخ علاقاتها الدبلوماسية مع طهران.

أما في علاقاتها مع تركيا، فانتقلت لمستوى من الارتباط الاستراتيجي والتوافق في كل بؤرة صراع بالمنطقة تقريبًا. حيث استضافت الدوحة أول قاعدة عسكرية تركية في الخليج، وثان أكبر القواعد العسكرية التركية في الخارج منذ العام 2017.

لتتموضع قطر في الاستراتيجية العسكرية الإقليمية بمحور “تركيا – إيران”، ما سمح بتحول الدوحة لنقطة تهديد كبري لمنظومة الأمن القومي العربي، جراء آفاق التعاون الواسعة التي مازالت تحكم العلاقة التي من الممكن وصفها بالتكاملية بين قطر وتركيا وإيران وما بها من تنسيق استخباراتي وسياسي وأمني.

دفع التموضع القطري السالف ذكره، إلى مقاطعة دول الرباعي العربي “مصر – الإمارات – السعودية – البحرين” لكافة اشكال العلاقات مع الدوحة. وذلك بعدما مرت الدوحة بمحطات فاصلة أثبتت فيها تنصلها من أي أطر قانونية ودبلوماسية من شأنها تحجيم تدخلها في شؤون الدول العربية، وتهديد أمنها القومي، وخاصة بعدما تنصلت الدوحة من اتفاقي الرياض “2013-2014”. 

وبمثل ما جرى ارتباط قطر بتركيا وإيران، وصل سقف العلاقة مع إسرائيل لمستوى تعدى التطبيع الخفي، ليصل للشراكة الحقيقية والمعلنة في مجالات:

  • التجارة، حيث كشفت صحيفة ديعوت أحرنوت، حجم التبادل التجاري بين تل أبيب والدوحة والذي بلغ 12 مليار دولار، في اعقاب الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي مرت بها الدوحة عقب إعلان الرباعي العربي مقاطعة قطر في 5 يونيو من العام الماضي، موضحة الصحيفة أن تل أبيب تصدر للدوحة معدات وماكينات، في حين تستورد إسرائيل من قطر المواد الخام المستخرجة من البترول والتي تستخدمها إسرائيل في تصنيع البلاستيك أكثر المواد المشهورة بها إسرائيل في مجال التصدير.

  • السياحة، باتت قطر وجهة “آمنة” للسياح الإسرائيليين الذين لا يجدون أي عقبات لزيارة البلد التي تبث منها قناة الجزيرة المعادية لدولتهم “إعلاميًا”.

وفي الدوائر الضيقة للنخب في تل أبيب، غدت الدوحة وجهة مفضلة لأبناء وأحفاد قادة “الجيش الإسرائيلي”، منهم حفيد وزير الدفاع الأسبق “موشيه ديان”.

  • الرياضة، أضحت قطر تستضيف الفرق الرياضية الإسرائيلية المشاركة في البطولات، بالرغم من شعاراتها الأممية الإسلامية الجهادية التي تتبناها لكل من مشروعي تركيا وإيران. ففي العام 2013، شارك منتخب كرة الطائرة الإسرائيلية في جولة قطر العالمية المفتوحة للكرة الشاطئية. كما مولت الدوحة بناء إستاد في تل ابيب بقيمة 15 مليون دولار، وافقت السلطات الإسرائيلية على إطلاق اسم العاصمة الخليجية عليه، على الرغم من أن العادة جرت في إسرائيل على عدم إطلاق الأسماء العربية على المنشآت العامة والحيوية حفاظا على “الهوية الإسرائيلية” والتسمية العبرية لها. وفي 2016 شارك فريق الدراجات الاسرائيلي في كاس العام للدراجات الهوائية المقامة في الدوحة. وفي أكتوبر 2018 استقبلت قطر لاعبين رياضيين اسرائيليين شاركوا في بطولة العالم للجمباز حيث أظهرت الفضائيات العلم الإسرائيلي وهو يرفرف اثناء حفل افتتاح البطولة. وبعثت الدوحة برسالة إلى جمعية الجمباز الإسرائيلية في 29 ابريل 2018 لطمأنه الجانب الإسرائيلي جاء فيها “نحن نحب الرياضة، ونكرم الرياضيين الذين يمثلون بلادهم كسفراء للسلام والوئام متابعة “نتعهد ونعد بأن يكون الموقف تجاه إسرائيل، مثل أي بلد آخر خلال المسابقات”.

  • تنسيق استخباراتي، حيث زار قطر سرًا رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي “يوسي كوهين” في فبراير الماضي. 

والتقى خلالها العديد من كبار المسؤولين القطريين، وجاءت زيارته بالتزامن مع زيارة سفير الدوحة محمد العمادي إلى غزة، حاملا هذه المرة حزمة جديدة من الأموال والمساعدات لحركة حماس، وهو أحد المسؤولين القطريين الذين التقوا قادة أمن إسرائيل مرات عديدة. ووفقا لهيئة البث الإسرائيلي (مكان)، فقد التقى مدير رئيس الاستخبارات الإسرائيلية وقائد المنطقة الجنوبية في إسرائيل عدة مسؤولين قطريين بينهم رئيس جهاز الاستخبارات القطري محمد المسند، وشارك في الاجتماع محمد العمادي المبعوث القطري إلى قطاع غزة. ووصفت صحيفة “والا” الإسرائيلية اللقاء ” اجتماعًا جادًا ورفيع المستوى “. 

نقلا عن المرصد المصري

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى