سياسة

عزلة تركية وصحوة ليبية وحل سلمي في الأفق


منذ ثلاثة أشهر تشهد ساحات عربية وأوروبية لقاءات ليبية متكررة بين ممثلين لمؤسسات معترَف بها دولياً، لا سيما البرلمان برئاسة عقيلة صالح والمجلس الأعلى للدولة برئاسة خالد المشري، بهدف إخراج البلاد من محنتها المُركبة وآلام شعبها التي فاقت الحد. يشارك في اللقاءات سياسيون وبرلمانيون وقادة عسكريون وصولاً إلى تثبيت حالة وقف إطلاق النار من جهة، والتركيز على إجراءات بناء الثقة من جهة ثانية، وتفعيل الاتصالات السياسية المتعددة المستويات من جهة ثالثة، بهدف إدخال البلاد في حالة دستورية دائمة، يستعيد فيها المواطنون الليبيون حقوقهم الطبيعية في العيش في بلد آمن ومستقر، وخالٍ من مظاهر الاحتلال التركي وعناصر الانفلات الأمني، ومؤسساتهم الوطنية القادرة على محاسبة الفاسدين الذين أهدروا ثروات البلاد.

الطموحات الشعبية كبيرة في إنهاء المرحلة الانتقالية بكل ما فيها من معاناة وقلق وعدم يقين بالحاضر والمستقبل، ما يضع عبئاً كبيراً على هؤلاء الذين وضع القدر على أكتافهم مسؤولية البحث عن السلام والأمان لليبيا ولكل مواطنيها. لعل العنصر الحاسم حتى اللحظة هو الالتزام بقرار وقف إطلاق النار المُعلن في 22 أغسطس (آب)، وثبات خطوط القتال بين الجيش الوطني الليبي وقوات حكومة الوفاق، والفاصل بينهما خط سرت – الجفرة، وهو التزام يعزز من إجراءات بناء الثقة بين المتحاربين، ويوفر فرصة للحوار السياسي المتعدد الأبعاد كما أقره «مؤتمر برلين» في يناير (كانون الثاني) الماضي و«إعلان القاهرة» في 6 يونيو (حزيران) الماضي.

يعزز ذلك عدة تطورات إقليمية مهمة شكّلت بيئة تحفز على الحل السياسي وطرح الحلول العسكرية جانباً، ومنها موقف الردع الذي اتخذته مصر، ممثلاً في تأكيد العلاقة بين وقف إطلاق النار على طول خط سرت – الجفرة والأمن القومي المصري، وأن أي انتهاك لهذا الخط سيعني تدخلاً مصرياً عسكرياً مباشراً وبقوة لضمان أمن مصر وليبيا معاً. ولا شك أن هذا الموقف الحاسم لعب دوراً في وقف محاولات قوات حكومة الوفاق المدعومة بالمرتزقة السوريين والعسكريين الأتراك لتغيير الأوضاع العسكرية في سرت والجفرة.

ثانياً: التوافق المبدئي بين تونس والجزائر والمغرب على رفض الحلول العسكرية والالتزام بدعم العملية السياسية المُعلنة في برلين، وتحفيز السياسيين الليبيين على الانخراط الجاد في الحوار والتوصل إلى رؤى عملية. وهو توافق عكس بدوره القلق من تحول ليبيا إلى سوريا أخرى وفقاً لتعبيرات الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وقلق من تغلغل النفوذ التركي وإعادة إنتاج المشهد الاحتلالي في إدلب السورية في الغرب الليبي بكل عناصره المثيرة للتوتر والمناقضة للأمن القومي لكل دول جوار ليبيا لا سيما من جهة الغرب.

ويلاحَظ هنا أن كلاً من الجزائر وتونس عبرتا عن استعدادهما لاستضافة حوار ليبى – ليبى من دون أي تدخل من جانبهما، وكذلك المغرب الذي استضاف اجتماعات بوزنيقة، مؤكداً لسان وزير خارجيته ناصر بوريطة، أن بلاده لا تتدخل في الحوار الخاص بتعديل المادة الخامسة من اتفاق الصخيرات الخاصة بالمناصب السيادية في المؤسسات الليبية، وأنه يوفر فقط منصة للحوار بين ممثلي مجلس النواب الليبي والمجلس الأعلى للدولة في طرابلس. وهو تطور ثلاثي يصبّ في قناعة أن اتفاق الصخيرات لم يعد ملائماً لبناء سلام ليبي، والبديل العملي هو رؤية سياسية شاملة تمنح ليبيا فرصة حياة طبيعية آمنة. ولعل تصريح الرئيس تبون حول تجاوز الأوضاع الليبية اتفاق الصخيرات هو الأوضح في هذا الصدد.

وثالثاً: التوسع العسكري التركي وعدم احترام العلاقات مع الجزائر رغم الاتفاقيات الاقتصادية الواعدة بين البلدين، والذي تمثل في إغراء الاستخبارات التركية أحد العسكريين الجزائريين للتجسس على تحركات مواقع الجيش الجزائري على الحدود الليبية، ما أكد نية أنقرة الخبيثة وتخطيطها لإثارة القلاقل في دول جوار ليبيا. وهو ما استنفر الجزائر لاستعادة العسكري المتهم لمحاسبته، الأمر الذي انصاعت له أنقرة. ورابعاً: بروز مخاطر تجمعات المرتزقة السوريين في ليبيا من حيث تعزيز المد الراديكالي للتنظيمات الإسلامية العنيفة في منطقة الساحل والصحراء، خصوصاً المنتمين إلى تنظيمي «القاعدة» و«داعش».

ويمكن أن نشير أيضاً إلى أن البعثة الأممية في ظل إدارة ستيفانى ويليامز كممثل للأمين العام للأمم المتحدة بالإنابة، تشهد نشاطاً مهماً لترسيخ وقف إطلاق النار، وتأكيد ستيفاني ضرورة خروج المرتزقة والعناصر الأجنبية من الأراضي الليبية في غضون 90 يوماً من بدء وقف إطلاق النار، كأحد العوامل الرئيسية لنجاح أي حوار ليبي ينهي مأساة البلاد والعباد، كما تلعب ستيفاني دوراً إيجابياً في التنسيق بين دول جوار ليبيا التي تشهد حوارات ليبية تحت المظلة الأممية. ومن المهم هنا الإشارة إلى تلك التقارير التي تؤكد عودة ما يقرب من 4500 مرتزق سوري سحبتهم تركيا إلى شمال سوريا المحتل ومنها إلى معارك «ناغورنو قره باغ» بين أرمينيا وأذربيجان. لكن يظل هناك قرابة 14 ألف مرتزق سوري في ليبيا يمثلون مشكلة أمنية كبرى.

هذه البيئة الإقليمية ونشاط البعثة الأممية يفسران إلى حدٍّ ما قرار فائز السراج منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي الذي بدا مفاجئاً بالاستعداد لتسليم السلطة للحكومة الجديدة التي سيتم تشكيلها من خلال الحوارات السياسية بين ممثلي البرلمان والمجلس الأعلى للدولة. وهو الموقف الذي أظهر أن هناك توافقاً دولياً إقليمياً بعيداً عن تركيا على ضرورة بداية جديدة لليبيا يصاحبها انتهاء دور الكثير من رموز حكومة الوفاق.

ما تم من حوارات ليبية برعاية أممية بتنسيق مع بعض دول جوار ليبيا، يعطي أملاً في إمكانية التوصل إلى رؤية متعددة الأبعاد سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، منها تفاهمات بوزنيقة المغربية بشأن معايير تولي المناصب السيادية، وتفاهمات أمنية – عسكرية كما حدث في الغردقة المصرية بشأن تشكيل قوة عسكرية أمنية لتأمين مدينة سرت المقرر أن تكون عاصمة الحكومة الجديدة عند تشكيلها. وفي سرت ذاتها اجتمع للمرة الثانية في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري عدة مئات من الشخصيات الليبية يمثلون كل قوى المجتمع المدني الليبي، حيث أكدوا وحدة الأراضي الليبية، وخروج كل العناصر الأجنبية من ترابها، واعتبار «المرحلة التمهيدية للحل الشامل» مهلة زمنية لإعداد الظروف الملائمة لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مواعيد لا تتجاوز الأشهر الثمانية عشر، وإعادة هيكلة السلطة التنفيذية لتتشكل من مجلس رئاسي مكون من رئيس ونائبين ومن حكومة وحدة وطنية مستقلة من المجلس الرئاسي.

وقيمة هذا التوافق الشعبي المدني أنه يُرسخ الأساس الشعبي للحل السلمي، ويُبرز وحدة الليبيين بعيداً عن أي ضغوط خارجية، وبدوره يضغط على السياسيين للإسراع في تحويل التفاهمات إلى خطة عمل وبرنامج سياسي قابل للتحقيق من دون أي مناورات أو عمليات التفاف على المصالح العليا للبلاد. والأهم أنه يعزل الفاسدين وزعماء الميليشيات وعصبة الإخوان الليبيين وحلفاءهم الأتراك.

نقلا عن الشرق الأوسط

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى