البصرة ليست مدينة عادية منزوية لا يَخشى غضبَها أحد، ولا يحسب حسابها أحد. فهي ثغر العراق الأوحد والأهم، ومستودع نفطه وتجارته وقمحه ونخيله وسياحته، ومنجم ثرواته الفكرية والفلسفية والأدبية، ومنبع غنائه وموسيقاه، مدينة الجاحظ والفراهيدي والفارابي وابن سيرين وأبي الأسود الدؤلي وبدر شاكر السياب. لهذه الأسباب مجتمعة تصبح ثورتها المتصاعدة مخاضا مصيريا لها ولوطنها، وربما المنطقة كلها. فالعراق الذي سيولد بعد انجلاء دخان ثورتها لا بد أن يكون واحدا من اثنين، إما عراقَ العدل والنزاهة والتقدم والنبوغ والوطنية الخالصة، أو عراقَ الخرائب التي ينعق فيها البوم، كما فعل بشار الأسد وحماتُه الإيرانيون بسوريا التي كانت زاهرة عامرة ذات يوم. والذي يجري في البصرة، هذه الأيام، هو نفسه الذي حدث في درعا قبل سنوات. ولا خلاف في أن المواطن البصري، بشهادة العراقيين والعرب والعجم والأجانب، كان من مئات السنين، وما زال، أبا السماحة والفصاحة، وأكثرنا، نحن العراقيين، طيبة وكرما ومرحا ونجابة. وحين ينقلب هذا المواطن الرضيُ المسالم المتسامح على وداعته وتسامحه وصبره الطويل، ويودع المسالمة والمسامحة، ويصبح بكل هذه الشدة، وبكل هذا العنف والعناد والاستبسال، ويهاجم قصور الحكومة، ويغلق مدخل الميناء البحري الوحيد، ويقطع الطريق الرئيسي مع بغداد، ويضرم النار في مقار الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران، فقط دون غيرها، فإن هذا يعني أن شيئا جللا قد أخرج هذا المواطن الهادئ الصبور عن طبعه، وأشعل فيه نيران كل هذا الغضب الدفين. ومما لا شك فيه أن فساد الحكومات المتعاقبة، وسرقاتها، وإهمالها، وفشلها في تحقيق الحد الأدنى من الماء والهواء والدواء والغذاء، وتسلط الأحزاب والميليشيات وعبثها وغرورها ومظالمها، خلق وضاعف معاناة الملايين في محافظات الوسط والجنوب، خصوصا في الأشهر الماضية، ولكن معاناة البصريين كانت، وما زالت، هي الأصعب والأمَرّ والأكثر كارثية وخطورة. شوارع البصرة تختنق بالنفايات والحيوانات النافقة والمياه الآسنة، وملوحة شط العرب بلغت حدودا لا يمكن احتمالها، ومصادر مياه الشرب ملوثة، والآلاف من أبنائها عاطلون عن العمل، ودائرة الفقر تتسع، والأوبئة تتفشى بسرعة، والأمن يضطرب، رغم أن 85 بالمئة من نفط العراق تنتجه البصرة، وتقوم الأحزاب الحاكمة الفاسدة بتهريب بعضه، وسرقة عوائده. جزء كبير من أسباب هذه المعاناة يعود إلى ما تلقيه السلطات الإيرانية في شط العرب من نفايات ومخلفات حيوانية ونباتية، إضافة إلى قيام الجارة إيران بتحويل مجرى نهر كارون الذي يمد شط العرب بكميات وافرة من المياه. ورغم أن جماهير البصرة طالبت حكومة الأحزاب الموالية لإيران بالعمل الجاد لتلافي بعض جوانب هذه الكارثة إلا أنها كانت تعمد دائما إلى التعتيم على الأمر. والآن، وبعد أن وصلت الأمور إلى حالة اللاعودة في البصرة، وبعد أن أضرم المنتفضون النار في مقرات منظمة بدر وحزب الدعوة والعصائب ومقرات إذاعة النخيل ومقر المجلس الأعلى الإسلامي ومقر قناة العراقية، وبعد أن راح السلاح يظهر في شوارع البصرة بشكل غير مسبوق، وبعد أن سقط قتلى ومصابون، وفقدت القوى الأمنية الحكومية السيطرة على الأحداث، بالتزامن مع تحرك جماهير واسعة في بغداد ومحافظات أخرى لنجدة البصرة وثورتها، أصبح بالإمكان التنبؤ بنتائج هذه المواجهة. إيران، التي أدركت أنها هي المقصودة بهذه الثورة، ستضطر في النهاية إلى دخول ساحة المعركة بحرسها الثوري وشرطتها لدعم أحزابها وميليشياتها، ولعدم السماح بهزيمتها في العراق. ورغم أن وزارة الداخلية التي تقودها منظمة بدر، على لسان اللواء سعد معن، المتحدث الرسمي باسمها نفت “وجود اتفاق بين العراق وإيران على دخول الشرطة الإيرانية إلى داخل العراق” فإن هذا قد يكون بالون اختبار، أو تسريبا متعمدا، وتهديدا مبطنا موجها إلى من يهمه الأمر لكي يحسب حسابه قبل فوات الأوان. إذن فقد أدخل البصريون الدولتين، العراق وإيران، وربما دولا أخرى في المنطقة وخارجها، في مواجهة حاسمة لن تنتهي إلا بواحد من اثنين، إما أن ترحل إيران عن العراق، عاجلا، وبأقل الخسائر، وتترك للشعب العراقي اختيار نظام حكمه وحكامه، وهذا أقرب إلى المستحيل، أو أن تغرق في حرب جديدة مع العراقيين، من نوع مختلف عن حربها السابقة معهم والتي استمرت ثماني سنوات. ومثلما كان من ورائهم في حرب الثمانينات أعداؤها المتربصون الكثيرون، فمن ورائهم في هذه الحرب أيضا أعداؤها المتربصون، وهم أكثر مما كانوا في الحرب السابقة بكثير. ومؤكد أن الذين غنوا لها بالأمس: (أحيا وأموت ع البصرة) سيغنون لها مجددا، وللعراق الذي سيحيا بالبصرة، ومعها، وهيهات هيهات أن يموت. نقلا عن “العرب اللندنية”