سياسة

عام يستحق النسيان


يأبى هذا العام اللعين أن يغادرنا من دون ارتكاب المزيد من المآسي. موجة جديدة من الوباء المتحور تنشر الذعر من جديد، لتذكر ببدايات القلق الذي أصاب العالم مع انتشار الموجة الأولى من الوباء، في مطلع الربيع الماضي. مستشفيات تعج بالمرضى وأسرّة ممتلئة وسباق بين سرعة الانتشار وسرعة اللقاح، وكأن 2020 يريد أن يمنعنا حتى من التفاؤل ببارقة الأمل التي أتاحتها اللقاحات.

لا يستحق عام 2020 سوى النسيان وذكريات اللعنة. عام لن يترك في ذاكرتنا سوى صور الكمامات والمعقمات، وخوفنا من بعضنا البعض ومن تناقل العدوى فيما بيننا، وطوابير المرضى في المستشفيات، والشوارع الخالية من العابرين، والمدن الغارقة في الكآبة، بعدما هجرها سكانها إلى داخل جدرانهم المسوّرة بالخوف والعزلة ممنوعين من الاختلاط بالأهل والأصدقاء والأحباء.

لكن حالة اليأس والإحساس بالعجز في الحرب مع عدو مجهول الوجه والهوية لم تمنع أبطالاً في مختبرات الأبحاث العلمية من السعي وراء الأمل في إنقاذ للبشرية من الكابوس الذي أصابها. وسواء تعلق الأمر بالزوجين الطبيبين، أوغور شاهين وأوزليم توريشي، في مختبرات «بايونتيك» في ألمانيا، أو البروفسورة سارة غيلبرت في جامعة أكسفورد، وغيرهم من الجنود المجهولين، فإن لهؤلاء الفضل الأكبر والتحية الأجمل. لقد كانوا بالمرصاد لـ«كورونا»، وانتصروا، ومعهم سوف تنتصر البشرية، ويتأكد أن طريق العلم هو الطريق الوحيد لخلاص البشر وتحسين ظروف حياتهم، في مواجهة الأمراض والأوبئة، وفي كل مجال آخر.

لقد واصل هؤلاء العلماء الليل بالنهار وأنجزوا في سنة واحدة عملاً يحتاج إلى سنوات. يكفي أن نتخيل لو أن جهودهم لم تتكلل بالنجاح، كم كانت ستبقى ضئيلة فرص عودتنا إلى ما يشبه الحياة الطبيعية، إلى لقاء صديق في مطعم أو مقهى، إلى عناق ولد أو حبيب، إلى زيارة بلد نحلم أن تطأه أقدامنا منذ زمن… إلى فتح باب المنزل والخروج إلى هواء الشارع من دون كمامة وبمأمن من هلع الفيروس.

لا شك أن البشرية عرفت كوارث وسنوات صعبة. كان الناس يقولون في نهايتها: «تنذكر وما تنعاد». غير أن التاريخ الحديث لا يذكر احتجاز البشر في سجن كبير يشبه السجن الذي فرضه عليهم وباء «كورونا». لو شئت أن تبحث في التاريخ عن سنة ارتكبت ما ارتكبته سنة 2020 بحق البشرية، فإنك ستحتاج للعودة قرناً كاملاً إلى الوراء: إلى نهاية الحرب العالمية الأولى و«الحمى الإسبانية» التي زادت على ويلات تلك الحرب، وأدى انتشارها إلى قتل نحو مائة مليون إنسان. أو إلى ما أُطلق عليها موجة «الموت الأسود»، في أواسط القرن الرابع عشر الميلادي، التي تمثلت بجائحة الطاعون التي ضربت مناطق واسعة من أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا، وقضت على 200 مليون شخص.

غير أن الأسوأ في سلسلة تلك الكوارث هو ما أصاب البشرية في القرن السادس الميلادي (عام 563م)، عندما غرق نصف سكان الأرض في الظلام لعام ونصف العام، تحت ضباب كثيف، قيل إنه نتج عن انفجار بركاني في آيسلندا، وعمَّت المجاعة ومرض الطاعون. ويربط المؤرخون سلسلة الكوارث تلك بانهيار الإمبراطورية الرومانية في آخر عهد الإمبراطور جوستنيان، بعدما قضت على نصف السكان الذين كانوا يعيشون تحت حكمها في ذلك الزمن.

لم يتوفر للناس في تلك الأزمنة السلاح الذي بين أيدينا اليوم، أي سلاح العلم وتطور الخبرات الطبية. وعندما كنا نسأل في أوج يأسنا خلال الظروف الصعبة التي مررنا بها هذا العام: كيف تمكّن هذا الوباء من ارتكاب هذا الحجم من الضرر في زمن التقدم العلمي وعصر الكومبيوتر وغزو الفضاء؟! كان العلماء يضحكون سراً في مختبراتهم، وينكبون على العمل؛ لأنهم وحدهم لم يخب أملهم في حقيقة التطور الذي يملكون بين أيديهم، ولا خابت ثقتهم بفرص تحقيق الانتصار في النهاية ولخير البشرية جمعاء.

مع هذا التقدم الطبي الذي حصل لا بد من طرح الأسئلة التي يجب أن تُطرح: كيف نشأ هذا الوباء؟ وكيف سُمح له بالانتشار بهذه السرعة؟ وسبب الإلحاح في طرح الأسئلة ليس معاقبة الصين والمسؤولين في مدينة ووهان، نقطة انطلاق الوباء، بل الاستفادة مما حصل وتعلم الدروس لمنع حصول كارثة مماثلة في المستقبل.

فريق من «منظمة الصحة العالمية» سيزور مدينة ووهان في شهر يناير (كانون الثاني) الحالي، بعد عام على ظهور العوارض الأولى لوباء «كورونا» في سوق الأسماك والخفافيش في تلك المدينة الواقعة جنوب شرقي الصين. ويطالب المسؤولون في المنظمة بالسماح لفريقهم بالتحقيق الصحيح في الأسباب والمسؤوليات. غير أن بوادر سلوك السلطات الصينية لا تشجع؛ من التشكيك أولاً في رواية الطبيب لي ون ليانغ، الذي كان أول من نبه إلى ظهور عوارض الوباء في ووهان، ثم مُنع من متابعة عمله وتوفي بعد إصابته بالوباء، إلى سجن الصحافية جانغ جان مؤخراً أربع سنوات بسبب التقارير التي نشرتها عن انتشار الوباء بين السكان، وعدم اعتراف السلطات بحجم الخطر قبل تفشيه، وصولاً إلى سكان ووهان أنفسهم الذين فقدوا أقارب لهم، ويطالبون اليوم بمعرفة حقيقة ما حصل.

أحد سكان ووهان كتب رسالة إلى الرئيس تشي جينبينغ يطالب فيها بالتحقيق في أسباب موت والده. يقول جانغ هاي: «لن أرتاح قبل أن تتم محاسبة المسؤولين في ووهان عما حصل بين ديسمبر (كانون الأول) 2019 ويناير (كانون الثاني) 2020… إنهم يريدون أن يبيعونا رواية أنهم سيطروا على الفيروس، لكن الحقيقة أنهم يريدون إخفاء ما حصل. إنهم يريدون التركيز على ما فعلوه بعد ذلك، وليس على السبب. لكن هذا لا يمحو الألم الذي أشعر به مثل كل الذين فقدوا أقارب لهم».

لو نجحت الصين في اختبار الحس بالمسؤولية تجاه العالم، سيكون ذلك إضافة مهمة إلى النجاح في اكتشاف اللقاحات، لأنه سيزيد من قدرة الأجهزة الطبية على توفير الحصانة من أوبئة مماثلة في المستقبل.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى