سياسة

ضعف التعافي

أحمد مصطفى


تفاءل العالم بأداء الاقتصاد في النصف الأول من العام مع الخروج تدريجيا من أزمة وباء فيروس كورونا وبدء تعافي قوي في اقتصاد أغلب الدول، خاصة المتقدمة. ورجح كثيرون أن الاقتصاد العالمي ربما يعود سريعا للنمو القوي بعد الركود الحاد في عام الوباء في 2020.

لكن لأن الأزمة غير مسبوقة في طبيعتها، وبالتالي لا يمكن توقع تبعاتها بدقة، لم تأت الرياح بما تشتهي السفن ولا تقدر مؤسسات الاستشارات.

في المقارنة بين الأزمة العالمية الناجمة عن إغلاق الاقتصاد للوقاية من الوباء والحد من انتشار الفيروس والأزمة المالية عالمية عام 2008 كان تقدير أغلب الاقتصاديين أن الأزمة الحالية لن تتعمق كثيرا وأن التعافي سيكون سريعا وقويا. ذلك لأن الأزمة السابقة كانت نتيجة تراكم علل النظام العالمي، وبالتالي حين انفجرت أخذت وقتا طويلا قبل أن تبدأ الأمور في التحسن. أما هذه الأزمة فمفاجئة وحادة بالشكل الذي يجعل الخروج منها بنمو قوي ومستدام.

ظهرت مؤشرات جيدة خاصة في بيانات الربع الثاني من هذا العام تعزز تلك التوقعات. لكن سرعان ما ظهرت التأثيرات الجانبية لعام الوباء وما سببته من تغيرات يبدو أن أمدها سيطول. وبدأ التعافي القوي في النصف الأول من العام يضعف بسرعة، في الوقت الذي تستعد فيه الحكومات لوقف برامج الدعم والتحفيز للاقتصاد التي طرحتها في عام الوباء.

أسعار الطاقة ترتفع بوتيرة عالية، خاصة أسعار الغاز الطبيعي الذي يستخدم في محطات الطاقة في نصف الكرة الشمالي. ومع توقعات شتاء بارد سيزيد الطلب أكثر على الغاز والكهرباء ما يعني ارتفاع أسعارها أكثر في الأشهر القادمة. وإذا تجاهلنا المزايدات السياسية والتضخيم الإعلامي، فجذر هذا الارتفاع اقتصادي بالأساس. فخلال عام الوباء وتعطل قدر كبير من الانتاج سحبت دول العالم من مخزونات الغاز الطبيعي بكثافة. وقبل أن تحاول ملء تلك الاحتياطيات بتخزين الغاز تحت الأرض كان الطلب يتسارع في النمو، بالتوازي مع النمو الاقتصادي السريع في النصف الأول من العام. في الوقت نفسه، لم تستعد الدول المنتجة طاقتها الكاملة بعد، ناهيك عن الاستثمار في توسيع طاقة الانتاج.

ينسحب ما حدث في قطاع الطاقة على قطاعات أخرى كثيرة في اقتصاد الدول والاقتصاد العالمي ككل. يتضافر ذلك مع المشاكل في سلاسل التوريد نتيجة اجراءات عام الوباء والتي لم تحل بعد. وسيأخذ الأمر وقتا لعودة سلاسل التوريد إلى طبيعتها. كل ذلك يزيد الضغط السلبي على الاقتصاد، وهو ما سحب قوة الدفع للنمو الذي تعافى في الأشهر الماضية.

هناك بعض الدول التي لديها مشاكل داخلية واقليمية ضاعفت من تأثير العوامل السلبية التي تضعف النمو والتعافي، مثل بريكست في بريطانيا وخلافات البيت الأبيض والكونجرس في أميركا على الميزانيات وحزم الانفاق العام. أما في الصين فهناك مشكلة تزامن اجراءات القيادة لضبط الاقتصاد ووقف الغليان في بعض القطاعات مع الخروج من أزمة الوباء.

معضلة الحكومات حول العالم أن عليها الآن وقف الدعم القوي الذي قدمته خلال الأزمة للحيلولة دون انهيار الاقتصاد، وهو ما كان له تأثير ايجابي قوي فعلا. في الوقت نفسه تجد الحومات نفسها مضطرة لمواصلة سياسات وإصلاحات ربما تأخرت قليلا بسبب أزمة كورونا. ويعني ذلك أن تتصرف وكأن “الأمور عادت لطبيعتها”، وهو ما لم يحدث تماما.

تعد اسعار الطاقة ومشاكل سلاسل التوريد من بين أهم العوامل التي تدفع معدلات التضخم للارتفاع. وفي مواجهة ذلك ستسارع البنوك المركزية حول العالم إلى تشديد السياسة النقدية (أي رفع أسعار الفائدة والتوقف عن ضخ السيولة في السوق) للحد من جموح التضخم. بالحكمة التقليدية، فإن تشديد السياسة النقدية يكون أثره سلبيا على النمو الاقتصادي. وإذا أخذنا ذلك في الاعتبار فالاقتصاد العالمي يواجه احتمال ما يسمى “الركود التضخمي” Stagflation أي ضعف النمو مع ارتفاع الأسعار.

لكن أزمة وباء كورونا هزت الكثير من الحكم التقليدية وجعلت النماذج المعتادة للتقديرات الاقتصادية وسيناريوهات التوقع بلا معنى تقريبا.

لا يعني ذلك أنه لا يوجد مخرج من تبعات الأزمة والحيلولة دون ضعف التعافي أكثر بما يؤدي إلى موجة أخرى من التردي الاقتصادي العالمي. فقط يحتاج الأمر إلى ما يسمى “التفكير خارج الصندوق”، وألا يعتمد الاقتصاديون والمسؤولون الذين يأخذون باستشاراتهم على المعايير القديمة والتقليدية في حساب التقديرات وافتراض السيناريوهات ووضع السياسات واتخاذ القرارات.

المؤكد أن أزمة وباء كورونا مثلت نقطة تحول هائلة، بحيث قد لا يصلح الكثير مما قبلها للتعامل مع ما بعدها. وكما يؤرخ في السياسة لما قبل الحرب العالمية وما بعد الحرب العالمية، أو ما قبل الاستقلال وما بعد الاستقلال، أتصور أنه اقتصاديا علينا التعامل بالمثل: ما قبل أزمة كورونا وما بعد أزمة كورونا.

نقلا عن سكاي نيوز عربية

 

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى