سياسة

“صورة العدو” وصراع الأقطاب


الإرهاصات الأولية منذ فوز جو بايدن بانتخابات الرئاسة الأمريكية.

تشي بأن كيمياء العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا لم تعد صالحة بخلطتها السابقة حين كان ترامب سيداً للبيت الأبيض. التصعيد في لهجة الخطاب الرسمي الأمريكي ضد الكرملين وزعيمه سبقه نشر نتائج عدد من استطلاعات الرأي تصب في خانة الدعم لموقف الإدارة الديمقراطية الناقدة لسياسة الكرملين، تبدّى حصادها في وصف بايدن لبوتين بـ”القاتل”.

 معاهد ومؤسسات قياس الرأي العام خاضعة لمعايير علمية ونفسية واجتماعية تعتمد في بعض الأحيان على انتقاء عينات محددة المواصفات والسلوكيات والثقافات، وفي أحايين أخرى تتناول عينات اجتماعية بشكل عشوائي بعيدة كل البعد عن دراسة مكونات وخصوصية الشخص المعني بإبداء رأيه في قضية ما؛ في كلتا الحالتين تصب نتائج الاستبيان في خدمة الجهة المعنية التي أوصت بإجرائه لتستخلص منه حزمة من العبر والدلالات تسمح لها بالبناء عليها في توجيه السياسات العامة أو الخاصة نحو وجهة محددة.

يظهر آخر استطلاع للرأي أجراه معهد “غالوب” الأمريكي العام الجاري أن المواقف السلبية تجاه روسيا في الولايات المتحدة وصلت إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، حيث إن نحو 72% من الأمريكيين موقفهم سلبي من روسيا. هذا الاستطلاع هو الأول منذ استطلاع أجراه المعهد ذاته عام 1989. يحدث أن يتم التلاعب باستطلاعات الرأي العام أحيانا لدعم وجهة نظر معينة يتبناها رجل سياسة أو مؤسسة بعينها من خلال حشد أكبر عدد ممكن من الأشخاص ذوي الميول إلى الأفكار والنهج ذاته، لكنها ليست قاعدة ثابتة وإلا فقدت معاهد ومؤسسات قياس الرأي والروائز النفسية للمجتمع مصداقيتها نهائياً.

تنطوي نتائج أي استطلاع على وجهين من الخيارات؛ أولهما توظيفه في عملية حشد مزيد من القوى والتيارات والأشخاص والتأثير المباشر على معتقداتهم بما يصب في سياق الدعم للفكرة التي يتم الترويج لها سياسية كانت أم اقتصادية أم ثقافية، أما ثاني الوجوه فيتمثل في ما تشيعه النتائج من متطلبات ينبغي على راسم السياسة أخذها بعين الاعتبار حتى وإن كانت غير ملائمة له من حيث ظروفها وخياراتها ومآلاتها، وعندها يمكن أن تتحول إلى عبء على كاهله. ليس جديداً ما أظهره “غالوب” ولا حتى مفاجئاً، فما تختزنه الذاكرة الشعبية الأمريكية تجاه روسيا، والذاكرة الروسية تجاه الولايات المتحدة من موروث ثقافي وأيديولوجي تنافري وأحياناً عدائي راكمته عقود من سياسة الحرب الباردة والصراعات السياسية على المناطق وعلى النفوذ والتوترات بينهما خارج حدود كل منهما؛ كلها كفيلة بالتنبؤ بأن ميادين الصراع بين القوتين العظميين متجددة بقدر ما هي متعددة وواسعة ومستمرة.

 مكمن الخطورة في الحالة التصعيدية بين الروس والأمريكيين الناشئة حالياً يتأتى من سعي كل طرف إلى تشكيل “صورة عدو” للآخر وفقاً لمعاييره ومصالحه، وتعميمها عبر وسائل مختلفة على الجمهور الداخلي المستهدف بعملية التعبئة كونه إحدى ركائز التفكير والتخطيط لدى صانع السياسة والقرار في كل طرف؛ لا يعني ذلك أن صاحب القرار في البيت الأبيض أو في الكرملين يعتمد بشكل حاسم على ركيزته الشعبية المتماهية مع نهجه ورؤاه، لكن يدرك كل منهما أهمية مزاج مرتكزاته سواء في المضي قدماً في تنفيذ قراراته، أو في المواجهة المحتملة مع خصومه السياسيين في الداخل.

العلاقات الدافئة مع موسكو وسمت مرحلة حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مع منغصات محدودة، ومع ذلك كان بين الأمريكيين من ينظر إلى روسيا ليس بصفتها دولة “غير ودية” وحسب؛ بل صنّفها بعضهم في خانة “العدو” للولايات المتحدة في سياق رسم “صورة العدو” وترسيخها في أذهان الجمهور الأمريكي كصورة نمطية سائدة.

في الطرف الآخر؛ تغيب الدراسات الإحصائية ومناهج قياس الرأي العام حتى الآن عن فلسفة الحكم في موسكو وعن المؤسسات الموازية الداعمة للسلطة الروسية، حتى يكاد المرء يعتقد أن الجمهور الروسي غائب لسبب أو آخر عن المشاركة في صنع القرار المتعلق بالعلاقات الخارجية، خاصة تجاه الولايات المتحدة أو حتى التأثير فيه.

بروباجندا صناعة “صورة عدو” جزء من سياسة ونهج بعض أنظمة الحكم خاصة تلك التي تواجه تحديات داخلية، لا تلبث أن يخفت صخبها وضجيجها بمجرد تجاوز التحدي الداخلي، بيد أن الأمر لا يبدو كذلك بين القطبين المتنافسين في كل شيء وعلى أي شيء. الولايات المتحدة الأمريكية اليوم قوة عالمية مهيمنة متسلحة بكامل المقومات المؤهلة لهيمنتها، وتحاكي، وفق منظور تصنيف القوى العالمية عبر التاريخ، الإمبراطورية الرومانية من حيث السيطرة والتحكم والامتداد الجيوسياسي على خارطة العالم أرضاً وفضاء، مدعومة بالإمكانات الاقتصادية والعسكرية الهائلة، أما روسيا، تبعاً للتصنيف ذاته، فهي قوة عظمى، أي في الترتيب الثاني بعد الولايات المتحدة من حيث حيازة المقومات الذاتية مقارنة مع القطب الأمريكي، معادلة ترجح كفة الأمريكيين بلا شك، لكن ليس من الحكمة إسقاطُ قوة القطب الروسي وتأثيره وفاعليته في العالم، وما لديه من قوة عسكرية ومناطق نفوذ وتمدد جيوسياسي في مناطق عدة من العالم، وموارد اقتصادية تدعم كثيراً خيارات المنافسة مع القطب الآخر، منفرداً أو ضمن الكتلة الأطلسية التي تتوجس موسكو منها.

مروحة التنافر بين القطبين أكثر اتساعاً من دائرة التقارب كما هو الحال دائما. العلاقات بينهما مرشحة في المقبل من الأيام لمزيد من التصعيد والتوتر. بعض قضايا الداخل الروسي ستشكل مادة رئيسية لبايدن وإدارته لتفعيل مزيد من الصعوبات ضد بوتين وإدارته. وحدها الملفات الاستراتيجية مثل سباق التسلح ونقاط التماس الساخنة سيجري التفاوض بشأنها لتبريدها لا أكثر. بايدن اتخذ وضعية الهجوم الشخصي المباشر على بوتين، وماكينته الإعلامية تضخ بلا هوادة لترسيخ “صورة العدو” الروسي لدى الرأي العام الأمريكي. بوتين يوحي باستعداده لتحويل التوتر الناشئ إلى فرصة للحوار، ولا تعْوزه الحيلة إن أراد تشكيل “صورة عدو” عن الأمريكيين مستعيناً بما يكتنزه أرشيف بلاده بشأن ذلك من الحقبة السوفيتية. وحده العالم سيراقب القطبين بشيء من القلق وبكثير من الترقب.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى