رسالة التسامح إلى أبناء العم سام
تستوقفني بعض المفردات التي فرضت نفسها بقوة في السياسة الدولية.
وتستمر بدورها في إحداث تلك الحالة من المعايشة لفترة زمنية محددة أو مستمرة، وتصيغ بنفسها عوامل ظهورها من خلال عدد من المعايير المختلفة التي تؤثر بشكل متباين على مجال العلاقات الدولية، منها ما هو سياسي أو اجتماعي أو أخلاقي أيضاً.
ولعل أكثر المفاهيم المرتبطة بتلك الفترة العصيبة التي يمر بها العالم تحديداً مفهوما “السلام” و”التسامح” كمصطلحين متصلين بشكل مباشر وغير مباشر، إذ تمثل العلاقة الأكثر منطقية بين المفهومين ديناميكية السياسة الدولية وتأثيرها على صناعة القرارات لحكومات العالم والكيانات والمنظمات الدولية المختلفة.
المفهوم الأول: السلام
فإذا نظرنا إلى نموذج الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها أكبر قوة مؤثرة في العالم بكل مكوناتها من حيث الصقل السياسي والعسكري والنفوذ العالمي فإن مفهوم “السلام” كان إحدى أكثر الأدوات التي لازمت أبناء العم سام بعد الحرب العالمية الثانية في نهاية العام 1945.
واستطاعت الولايات المتحدة من خلال أدواتها الاستراتيجية وصقلها السياسي الظهور كراعٍ رئيسي للسلام في العالم من خلال إسهامها الرئيسي والمباشر في إنشاء منظمة الأمم المتحدة ودعم إنشاء المنظمات الدولية وتشجيع دول العالم بلا استثناء على الانخراط بها، كما رعت اتفاقية “السلام” بين مصر وإسرائيل أو فيما يعرف بـ”كامب ديفيد” في عام 1978م، وتدخلت عسكريا وسياسياً بشكل مباشر لمنع اعتداء القوات العراقية على دولة الكويت في عام 1990م.
وظهر جليا دور الولايات المتحدة الأمريكية كقوة رئيسية مؤثرة ليس فقط في رعاية السلام في العالم، وإنما أيضاً كقوة عسكرية رشيدة تحمي السلام وتشجع العمل الجماعي في سياق المؤسسات الدولية والاتفاقيات التي تدعم التنمية على المستوى العالمي.
وعلى المستوى الداخلي فإن الولايات المتحدة الأمريكية استطاعت من خلال ظهورها القوي أيضاً أن تكون دولة تعايش باعتبارها وطنا قام على تعدد الثقافات والأصول العرقية، كما نجحت في احتضان مئات المنظمات والكيانات التي ترعى المصالح الدينية سواء المنظمات الإسلامية أو اليهودية بجانب المنظمات المسيحية، بالإضافة إلى أن الأمريكيين من أصول أفريقية أصبحوا أكثر انخراطا في العملية السياسية الأمريكية بعد نضال تاريخي كبير شهدته حركة الحقوق المدنية التي كرست جهودها ما بين عامي 1954م و1968م واستطاعت إلغاء ممارسات التمييز العنصري ضد الأفارقة الأميركيين، وهو ما نتج عنه تولي العديد من الأمريكيين الأفارقة مناصب هامة في البيت الأبيض والوزارات والمناصب السيادية وكبرى المؤسسات الاقتصادية، بالإضافة إلى نجاح السيناتور باراك أوباما في 4 نوفمبر 2008 في أن يصبح أول أمريكي أفريقي يُنتخب رئيسا للولايات المتحدة، بعد أن أعطاه الأمريكيون البيض والأفارقة صوتهم بالإضافة إلى أصحاب الأصول الهندية واللاتينية وحصد أيضاً أصوات الشباب، بما يؤكد على وحدة القرار للشعب الأمريكي بمختلف مكوناته ونسيجه المجتمعي في ذلك الوقت.
ولكن يبدو أن التحول السياسي القائم في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد فوز بايدن بانتخابات الرئاسة الأمريكية وأحداث الشغب التي لحقها اقتحام الكابيتول في مطلع العام الحالي 2021، بالإضافة إلى مشاهد انتهاك حقوق الإنسان والاعتداء المباشر والقتل للأمريكيين الأفارقة في الشارع والساحات التي وقعت العام الماضي، وهي نفس ذات الفترة التي فزع العالم أجمع فيها جراء انتشار وباء كوفيد- 19؛ هو الأمر الذي يجعلنا نتساءل بوضوح حول مدى قدرة أبناء العم سام على التعايش المشترك مجددا وتوحيد كلمتهم على المستوى الداخلي، بعد أن بات الانقسام في الشارع الأمريكي واضحاً، وهو ما سوف ينعكس بدوره على مسار السياسة الدولية خاصة في ظل وجود تخوفات من أن تفقد الولايات المتحدة سلطتها الأخلاقية دولياً والتي تمثل أهم أدوات صقلها السياسي وقوتها الناعمة في تمكينها من صناعة السلام وحشد الرأي العام العالمي بجانبها لصالح القضايا الدولية المشتركة.
المفهوم الثاني: التسامح
وعلى الجانب الآخر وفي سياق حالة عدم الحراك الدولي بسبب انتشار جائحة كوفيد- 19، وما تبعه من إغلاق حركة الملاحة الجوية والبحرية لفترة طويلة خلال العام السابق في ظل انشغال العالم بمحاولة السيطرة على الوباء وتوفير لقاح مناسب لإعادة الحياة لما كانت عليه من قبل، فقد استطاعت الإمارات العربية المتحدة إحداث تغيير جذري لم يتوقعه أحد في عملية “السلام” في المنطقة والذي ارتكز على مفهوم “التسامح”، وذلك بسبب تبني مجتمع الإمارات لمفهوم “التسامح” كأحد مكونات المجتمع وإحدى ركائز قيام الدولة نفسها وليس كممارسة مستحدثة أو آلية لإظهار نوع من الوجاهة الدولية، حيث حقق الاتفاق الإبراهيمي أو اتفاقية السلام بين الإمارات وإسرائيل كسرا للجمود الدولي في المنطقة بأكملها، وحقق توازنا ملحوظاً بالإضافة إلى تحقيق مكتسبات حقيقية للشعب الفلسطيني بعد تجميد ملف القضية الفلسطينية لسنوات، وهو ما جعله انتصاراً دبلوماسياً وسياسياً خاصة أنه على الجانب الآخر من ذلك الاتفاق القائم على ركيزة “التسامح” أسهم مباشرة في البدء بانفتاح على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعلمي أيضاً لدول المنطقة. وفي ذات السياق أدى الاتفاق الإبراهيمي إلى إرساء نوع من الحراك الدبلوماسي والتنسيقي السريع لعدد من الدول العربية، ما يعني إنهاء العزلة العربية مع دولة إسرائيل ارتكازاً على ذات المفهوم “التسامح” باعتباره أولوية للجميع، فحواه أن التعاون والتعاضد بين المجتمعات والشعوب أولوية لا بديل عنها، وهي الفكرة التي استطاعت الإمارات العربية المتحدة طرحها من منهج مجتمعي على المستوى الوطني، إلى ركيزة في السياسة الخارجية لها تحولت بدورها إلى عدوى إيجابية لدول الخليج والشرق الأوسط ودول شمال أفريقيا “مملكة البحرين، جمهورية السودان، المملكة المغربية”، وهو في ذات الوقت يؤكد على أهمية “التسامح” كحل للتعايش المشترك ومشاركة احتياجات الشعوب والمجتمعات والعمل المشترك دوماً من أجل حماية الإنسانية من التغير المناخي والفقر والكوارث الطبيعية والأوبئة مثل كوفيد- 19 الذي أعطى درساً للتاريخ، وتجربة واقعية يجب أن تسترشد بها المجتمعات المنغلقة على أنفسها وتعي جيدا أن الجميع لا بد أن يشارك في نجاح الجميع خاصة أن وتيرة التطور التكنولوجي تمضي قدماً بإيقاع سريع.
خلاصة القول.. أرى أن الاتفاقيات الإبراهيمية هي التعبير الأشمل لتطبيق مفهوم التعايش الذي يجمع الإسلام واليهودية والمسيحية التي انحدرت جميعها من نبي واحد، إبراهيم، وهو ما يؤكد حقيقة أننا عائلة واحدة كبيرة، من المفترض أن وعينا كشعوب ومجتمعات قد ارتقى إلى مستوى يجعلنا أكثر مسؤولية بضرورة احتضان التعايش كأسلوب للحياة لحماية “السلام” من جهة، ولخلق مستقبل أفضل للأجيال القادمة، ويسوده الأمن الإنساني والتقدم والرقي وتحقيق المصالح المشتركة من جهة أخرى، وأعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية عليها مسؤولية كبيرة، ولديها في ذات الوقت الوعي الكافي لضرورة التصالح المجتمعي بين كافة الفصائل، وأن اتحاد كلمة أبناء العم سام ضرورة مصيرية للجميع على حد سواء، وهو الملاذ الحقيقي حتى تعود أرض الأحلام إلى بريقها ويضيء تمثال الحرية من جديد.