رجلٌ لا كالرجال
يقول مثل إيطالي: “الكفاءة يد الثروة اليمنى، والاقتصاد يدها اليسرى”..
فماذا عسانا أن نقول في رجال أكفاء ذوي حنكة اقتصادية وإدارية فذة.. شكلوا على مدار سنوات طوال الثروة الحقيقية للوطن، ومنهم الراحل الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم.
تنتابني الرهبة حينما أشرع في الكتابة عن شخصيات عظيمة ترحل عنا.. صعب التجلي في سيرتهم ومسيرتهم التي حولت حياة وطن بأسره نتيجة رؤاها العميقة.
الشيخ حمدان نجل باني دبي الشيخ راشد.. كان قد عاهد أباه منذ رحيله في عام 1990 على أنه وإخوته سيبذلون قصارى جهدهم لإكمال البناء على حجر الأساس الذي أرساه والدهم، فالابن كان يرى في أبيه عبقرية فطرية يصعب شرحها ولدت من ورائها “دبي”.. وهكذا صفة توارثها الأبناء عن أبيهم، مثلما توارثوا صفات القائد الريادي المتنور ذي التفكير العملي والواقعي.
الراحل هو الابن الثاني للشيخ راشد بعد مكتوم، وسمي “حمدان” تكريماً لجده والد الشيخة لطيفة الذي حكم أبوظبي بين العامين 1912-1922، ومنذ صباه كان يظهر ميلاً إلى الأعمال التجارية، فظل ملازماً لمكتب والده الذي رأى فيه محركاً وموجهاً للحركة التجارية المتوسعة.
هذا ما ورد في كتاب “راشد والأسطورة” الذي كتبه غريم ويلسون، ولعله يكون الكتاب الأقرب إلى قلب الشيخ حمدان الذي رعاه وأشرف عليه مع مجموعة من الشخصيات، لأنه يوثق بشكل عميق لحياة والده باني نهضة دبي.
الكتاب وثق لقصص كثيرة أظهرت جوانب مضيئة لشخصية الشيخ حمدان، ومما لفتني وصف عصام الخياط الأستاذ والمسؤول عن علاقات الطلاب العرب في مدرسة بيل للغات بكامبريدج، حيث كان يتلقى الشيخ حمدان تعليمه مع أخويه الشيخ مكتوم ومحمد عام 1966، إذ قال عنه: “كان ذا طلة وشخصية محببة وكان طالباً جيداً، ذا منحى جدي.. وضع هدفاً نصب عينيه، كان همه مصبوباً على المستقبل، ولم تكن المدرسة سوى جسر يوصله إلى تولي المسؤوليات التي تنتظره”.
هكذا حب وجد في طلب العلم.. مبررٌ كافٍ للتقدير الذي كان يسكبه الشيخ حمدان على العلم والعلماء، فبرز دعمه لقطاع التعليم جلياً وسخياً، ولعل جائزة حمدان بن راشد للأداء التعليمي المتميز خير شاهد.
عصام الخياط أضاف أيضاً: “كان عندي انطباع دائم عن الشيخ حمدان بأنه ذو تفكير عميق، ولو لم يكن من آل مكتوم، لما كان إلا رئيساً تنفيذياً لشركة عملاقة”.. هذا الإيمان المبكر بفرادة شخصية الراحل نائب حاكم دبي هو ذاته الذي أكد عليه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق إدوارد هيث الذي قال فيه حقاً: “لقد أحببت الرجل، كـأن فيه سراً يحببه إليك حالما تلتقيه”.
أمر لا يخطئه القلب ولا العين.. فسماحة الشيخ حمدان وطيبته وإنسانيته كانت سمات طاغية على شخصيته.. وحينها كان يبلغ من العمر 23 عاماً، ومن يومها وهو يدير العديد من مشاريع والده الاقتصادية، فكان رحمه الله واسع الفهم وذا ذكاء حاد.
وهنا أستشهد بعبارة أخرى قالها في حقه حمد بن سوقات: “كان الشيخ راشد واثقاً من أن لابنه الشيخ حمدان دوراً لا يحسنه أحد أكثر منه، وقد لعبه بالفعل فيما بعد”.
وبعدها بثلاث سنوات في عام 1971 تولى الشيخ حمدان مسؤولية كبرى بتقلد وزارة المالية والصناعة، وكان ذلك تحدياً كبيراً مربوطاً نجاحه بنجاح مشروع الاتحاد.
إلا أن التحدي هو ما يجيد اللعب في ميدانه أبناء راشد، في وقتها كان الشيخ مكتوم هو رئيس مجلس الوزراء، وكان الفشل غير مسموح به عنده، والشيخ حمدان لم يترك مكاناً للخطأ، مدركاً حجم الثقة والمسؤولية، فتحت قيادته الاقتصادية كانت الإمارات العربية المتحدة بين أول البلدان في المنطقة التي طبقت سياسة الاقتصاد الحر، وأوجدت المناخ الاستثماري الخارجي الجاذب، وحدت من المعاملات البيروقراطية التي كانت من أبغض الأشياء على قلب راشد وأبنائه.
وهكذا ظل الشيخ حمدان بطلاً رئيسياً من أبطال حكاية دبي.. محققاً الإنجازات تلو الأخرى صحبة نخبة من المواطنين من ذوي المواهب العليا والكفاءات العلمية الذين تلقوا من سموه الاهتمام والرعاية والثقة، ليتركوا بصمة ريادية عالمية كما قادتهم الذين آمنوا بهم.. ويحولوا مئات المشاريع من مخططات على الورق إلى واقع ترك رقماً صعباً في عالم المال والأعمال والتنمية بأسرها.