مجتمع

ذكرى وفاة الحسن الثاني..تاريخ خالد بالذاكرة الجماعية للمغاربة


شيعه أكثر من مليوني مغربي في جنازة مهيبة حضرها العشرات من قادة العالم، ورحل تاركا مسيرة حافلة لـ”أب الأمة” الذي عرف بذكاء سياسي لافت.

23 يوليو/تموز 1999، تاريخ خالد بالذاكرة الجماعية للمغاربة، ويوم نعوا فيه ملكهم، في محطة فارقة بالتاريخ الحديث للمملكة.

كانت حلقة حاسمة من سلسلة كرتونية جاءت بعد ساعات من الانتظار، بثت فيها القناة الأولى المغربية فيلماً هندياً طويلاً، انفض الكبار من حول التلفاز، وبقي الصغار مُشرئبة أعناقهم نحو الصندوق الصغير.

حينها لم تكن شاشات التلفاز الملونة قد ذاع صيتها كما اليوم، وجودة الصورة كانت بالكاد تُرى لأن البث كان تناظرياً فقط، وليس رقمياً كما اليوم، كما أن شبكة الإنترنت لم تكن قد وُلدت بعد.

انطلقت الحلقة، وشرع البطل الكرتوني في قتال الأشرار كعادته، وحين هم بتوجيه إحدى ضرباته المُعتادة، كانت الأفواه مفتوحة تتابع تفاصيل المعركة الضارية.

فجأة، انقطع البث وعم الصمت، ولا أحد كان يعلم ما الذي جرى، ثُم ظهرت المُذيعة المغربية فتيحة دانييل، ترتدي جلبابا مغربياً وتضع غطاء على رأسها، لتُخبر المغاربة، في نشرة استثنائية وخبر عاجل، قائلة إن”جلالة الملك الحسن الثاني أصيب -حسب أطبائه- بوعكة صحية، وأن الديوان الملكي يتوجه إلى عموم المواطنين برفع أكف الضراعة للعلي القدير بأن يحفظ جلالة الملك ويصبغ عليه رداء الصحة والعافية”.

لم يعرف الأطفال ما الذي حصل في معركة البطل الكرتوني، ولم يعد أحد يبالي بالأعراس التي ألغيت، والعطل الصيفية التي أوقفت، وصار الهم واحداً: سماع خبر يُطمئن المغاربة عن صحة والدهم وقائد بلادهم، الملك الحسن الثاني.

ساد استنفار أمني مُدن المملكة، ألغيت البرمجة العادية للقناتين الأولى والثانية، وعُوضتا بالقرآن، ثم بدأت نشرة استثنائية أخرى، عم الصمت من جديد وأطل المذيع مصطفى العلوي، ببذلة سوداء ووجه شاحب وعينان مغرورقتان بالدموع، ليُعلن: “مات الملك الحسن الثاني”.

كان الخبر بمثابة الفاجعة، غصت الشوارع بالمغاربة، بين داعٍ بالرحمة ولسان حاله يلهج قائلاً: “مات أبونا.. مات والد المغاربة”. وبين مصدوم غير مُصدق يُنادي “لا لم يمت الحسن”.

ذكرى محفورة

تفاصيل ذلك اليوم، وإن مر عليه 22 عاما، فإنها لا تزال محفورة في قلوب المغاربة قبل ذاكرتهم، ذاك اليوم الصيفي الموافق للثالث والعشرين من يوليو/تموز من عام 1999، وفيه فقد المغاربة أحد أعظم مُلوك البلاد.

وفي ذكرى وفاته يستحضر المغاربة تلك الجنازة المهيبة التي شارك فيها أكثر من مليوني مواطن، فيما تسمر البقية ممن لم تُسعفهم الظروف، يُتابعون تشييع قائد البلاد عبر القناتين الرسميتين.

جنازة سار فيها المشيعون، وعلى رأسهم مُمثلو أكثر من 70 وفداً لدول مُختلفة، وثلاثون زعيماً عالميا، لثلاث كيلومترات، إلى أن وصل جُثمان الراحل الحسن الثاني إلى مثواه الأخير، محمولاً على متن سيارة مكشوفة.

في ضريح مُحمد الخامس، وُضع الجُثمان أمام المُشيعين، وعلى رأسهم الملك محمد بن الحسن، الذي خلف والده، الراحل الحسن الثاني.

أبرز القادة العرب آنذاك، اصطفوا أمام النعش المُغطى بغطاء أخضر، قبل أن يأتي الملك الشاب محمد بن الحسن وأخوه الأمير مولاي رشيد، وآخرون من أبناء الأسرة العلوية لتقبيل النعش الكريم، ثُم نادى الإمام بإقامة صلاة الجنازة.

صور خالدة للأخوين الشابين وأبناء عمومتهم، وقف الجميع صفاً واحداً أمام قبر الملك الراحل، لا أحد منهم استطاع مُقاومة دموعه المُنهمرة، ثم انتهت مراسم الدفن وتقدم الراحل ياسر عرفات رئيس دولة فلسطين آنذاك، ليُسلم على وريث العرش وباقي أسرته، ويُؤازر شباب الأسرة الملكية في مُصابها الجلل، مُقدماً عبارات التعازي والمواسات.

في أعقاب ذلك، توجه الملك محمد بن الحسن نحو قبر جده محمد الخامس الذي يتوسط الضريح، مُقبلاً طرفه، ثُم حيّا المُقربين ممن دخلوا الضريح رفقته، وخرج إلى الجموع المُحتشدة في ساحة مسجد حسان بالرباط ليتلقى التعازي ويُحيي أبناء شعبه.

رجل الحنكة والبلاغة

قاد الملك الحسن الثاني الراحل المملكة المغربية لـ38 عاماً، فبعد أن خلف والده، الراحل محمد الخامس عام 1961، قاد البلاد في مسيرة استكمال الوحدة الترابية، وتعزيز أسس الاستقرار السياسي والاقتصادي.

ويُسجل للعاهل المغربي الراحل قيادته المسيرة الخضراء لتحرير الصحراء المغربية من الاحتلال الإسباني، والتي تجاوز أعداد المتطوعين لها 3 ملايين نسمة وبلغ عدد المشاركين فيها أكثر من 350 ألف متطوع.

وكان الحسن الثاني قائداً معروفا بحنكته السياسية، إذ نجح في قيادة مغرب ما بعد الاستقلال عن فرنسا، واضعاً بذلك أسس مملكة الحق والقانون، عبر سياسة اقتصادية وإنجازات اقتصادية كبرى لازالت المملكة تجني ثمارها إلى غاية اليوم.

ومما اشتهر به الراحل الحسن الثاني، فصاحة لسانه وبلاغة خُطبه، ما جعل منه مُحاوراً غير مسبوق لكُبريات المُؤسسات الإعلامية، وكانت له العديد من المقابلات الصحفية التي صارت مرجعاً جامعياً يُحتذى به.

وللحسن الثاني مواقف دولية كثيرة، إذ كان من أول المدافعين عن حل الدولتين بالنسبة لملف النزاع الفلسطيني، مُشدداً على ضرورة الحوار بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ناهيك عن كونه مرجعاً يعود إليه القادة العرب لطلب المشورة وأحياناً الوساطة لحلحلة بعض الملفات.

ولم يخطب في شعبه من ورقة إلا نادراً، إذ كان الحسن الثاني يجلس أمام الكاميراً ثم يسترسل في الحديث، دون الرجوع إلى ورقة، أو أي جهاز عاكس.

الإمارات إلى جانب المغاربة

وكعادتها في علاقاتها المتينة مع المملكة المغربية، كانت دولة الإمارات العربية المتحدة أول المُعزين في ذلك المُصاب الجلل، إذ قال رئيسها حينها الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان إن الملك الحسن عمل بكل ما وهبه الله من رؤية ثاقبة وحكمة بالغة لخدمة الأمة العربية والإسلامية والدفاع عن قضايا الحق والعدل .

وبعد أن قدم تعازيه للمغرب قيادة وشعباً، أكد الشيخ زايد وقوف دولة الإمارات وشعبها مع المغرب الشقيق في تلك المحنة الأليمة ودعمه بكل الوسائل والسبل الممكنة.

وكانت الإمارات العربية حاضرة خلال تشييع الحسن الثاني، ومُمثلة بالشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، الذي حضر آنذاك بصفته وزيراً للدفاع.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى