سياسة

ديمقراطية أردوغان تنتهي في الصندوق الانتخابي


الثابت هو ألا تكون الديمقراطية في الموقع المضاد للحرية والإرادة والثقافة والحقوق، والثابت أيضاً هو أن الديمقراطية هي عملية متكاملة، بمعنى ألا تقتصر على الاقتراع على التصويت في الصندوق الانتخابي وإنما يجب أن تشمل المفاهيم والممارسات والالتزام بتطبيق القانون والدستور.

في التجربة العملية لممارسة الديمقراطية في تركيا، برزت تجربة صندوق الاقتراع مدخلاً للوصول إلى السلطة وممارستها، وتحقيق الانتقال السياسي في البلاد، لكن الوقائع اللاحقة للمحاولة الانقلابية المزعومة الفاشلة صيف عام 2016، أثبتت أن هذا المدخل وحده غير كاف كي تسير التجربة الديمقراطية في المسار الصحيح، ولعل قرارات السلطات التركية وتحديداً سلطة الرئيس أردوغان منذ الانتقال إلى النظام الرئاسي عام 2017 تكشف كيف أن مفهوم الصندوق الانتخابي تحول إلى سلطة استبدادية مطلقة في مواجهة كل المناوئين لسياسة أردوغان.

فرفع الحصانة عن نواب المعارضة وإقالة رؤساء البلديات، لا سيما من حزب الشعوب الديمقراطية، واعتقال وسجن الناشطين والحقوقيين والصحفيين، وإغلاق الصحف والمنابر المعارضة، كلها أصبحت إجراءات من صلب الحياة السياسية التركية اليومية، ولعل آخر إبداعات أردوغان في هذا المجال، تقديم طلب إلى البرلمان لرفع الحصانة عن ثلاثين نائباً معظمهم من حزب الشعوب الديمقراطية.

كلما فازت أحزاب المعارضة بالانتخابات سرعان ما تجد نفسها تحت مقصلة الإقصاء والملاحقة والتهميش، وكأن ديمقراطية أردوغان تقوم على معادلة ما تحصلون عليه في الصندوق نستطيع إلغاءه بقرار سلطوي.

معظم القرارات التركية هذه، هي بحجة الارتباط بجماعة الداعية فتح الله غولن حليف أردوغان السابق، أو بحجة دعم حزب العمال الكردستاني، وعليه فإن الإجراءات الإقصائية هذه سرعان ما تلغي أي قيمة ديمقراطية للصندوق الانتخابي، إذ كلما فازت أحزاب المعارضة بالانتخابات سواء أكانت برلمانية أم بلدية، سرعان ما تجد نفسها تحت مقصلة الإقصاء والملاحقة والتهميش، وكأن ديمقراطية أردوغان تقوم على معادلة ما تحصلون عليه في الصندوق نستطيع إلغاءه بقرار سلطوي.

فخلال مرحلة الانتخابات البلدية الماضية، وتحديداً في الحادي عشر من سبتمبر عام 2016، تم عزل رؤساء بلديات عشرين مدينة من حزب الشعوب الديمقراطية دفعة واحدة، وتعيين أشخاص بدلاً منهم في إطار سياسة الوصي التي انتهجتها الحكومة التركية، ليصل العدد الإجمالي في نهاية العهد الماضي إلى 95 رئيس بلدية من أصل 102 رئيس بلدية كان فاز بها أعضاء الحزب، وفي مرحلة العهد الحالي للانتخابات تم عزل أكثر من أربعين رئيس بلدية منتخباً حتى الآن من الحزب نفسه من أصل خمسة وستين رئيس بلدية.

الأمر نفسه، طال نواب حزب الشعوب في البرلمان، إذ تمت إقالة نحو عشرة نواب في إطار تعديل القانون رقم 83، المتعلق برفع الحصانة عن نواب البرلمان، وزج بعضهم في السجون، بينهم الرئيس السابق للحزب صلاح الدين ديميرداش، الذي أطلق عليه لقب أوباما تركيا بعد أن رشح نفسه للانتخابات الرئاسية الماضية. والقضية لم تتوقف عند نواب البرلمان ورؤساء بلديات، بل وصلت إلى حد إغلاق عشرات المراكز المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان والثقافة والدراسات والمؤسسات الإعلامية والمرأة.

والسؤال هنا، إلى أي مدى هذه الإجراءات قانونية ودستورية؟ وإلى أي مدى تنسجم مع الديمقراطية كمفهوم له علاقة بالحرية والإرادة وتمثيل خيارات المجتمع؟ ولماذا الاستهداف ينصب على الحركة الكردية حتى لو كانت سلمية وتلتزم بقواعد اللعبة الديمقراطية؟ وهل لهذا الاستهداف علاقة بالعقلية والأيديولوجية القومية التركية التي نشأت عقب تأسيس الجمهورية في عام 1924؟ وما مخاطر استمرار هذه السياسة على التعايش التركي- الكردي مستقبلاً؟ دون شك، هذه الأسئلة وغيرها تعبر عن إشكالية مزمنة في التجربة الديمقراطية في تركيا، إذ لا يعقل أن يتم إلغاء نتائج العملية الانتخابية بجرة قلم كما أرادت السلطات ذلك، وفي الأساس، كيف يؤثر مثل هذا القرار على التعايش الداخلي في البلاد؟ هل يؤسس مثلاً لتيار سياسي كردي يؤمن بالحلول السلمية أم يشجع على العنف؟ هل يسهم في التعايش بين الشعبين التركي والكردي أم يزيد من الانقسام والعداوة؟ ألا تخدم مثل القرارات الجماعات المتطرفة عبر تغذية شعور قومي مدمر يرفض الآخر والتعايش معه؟ ألا تفتح الباب للانفجار الداخلي التركي؟

في الواقع، المتضرر من هكذا قرارات، ليس الكرد وأنصار حزب الشعوب الديمقراطية فقط، بل جميع مكونات تركيا من أحزاب وقوى سياسية وتيارات تؤمن بالديمقراطية وسيلة للعملية السياسة والتعايش الاجتماعي، وهذا الأمر يتناقض مع سياسات الحزب الحاكم الذي يلجأ إلى إفراغ الديمقراطية من مفاهيمها الحقيقية لصالح ممارسة السلطة في إطار سياسة الحزب الواحد، والرجل الواحد الذي يعتقد أنه مصدر كل السلطات، وأن على الجميع أن يشتق منه القرار.. سياسة تضع الديمقراطية، بل تركيا نفسها في خطر محدق بعد أن حوّل أردوغان الحكم في تركيا إلى حكم أيديولوجي سلطوي يحكم البلاد بالنار والحديد في الداخل، ويتدخل في شؤون الدول العربية والإسلامية تحت راية أيدولوجية تقوم على مطامع استعمارية بلباس العثمانية الجديدة التي تقوم على ثقافة السيطرة والاحتلال. ما أشبه ديمقراطية أردوغان بديمقراطية هتلر الذي جاء إلى الحكم أيضا عبر صندوق الانتخاب قبل أن يبث في الشعب الألماني أفكار التفوق والسيطرة ويخوض حروبه الدموية التي أتت بنهايته بعد حرب عالمية أودت بحياة الملايين.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى