سياسة

ديفيد هيل.. ونَكْث لبنان وعوده


في منتصف السبعينيات تولى جورج بوش، الذي كان سفيراً لبلاده في الصين، منصب مدير المخابرات المركزية الأمريكية.

وكان من الأمور الشائعة في الأروقة السياسية الامريكية آنذاك أن ما يعجز عنه كل مساعدي جورج بوش كان يستطيع هو حله بطريقة استعصى على مَن حوله فهمها، حتى أصبح هناك قول شائع بين ساسة أمريكا أن المشكلة التي لم يستطع جورج بوش حلها فلا تحاول أنت ولا غيرك أن تبحث عن حل لها، ولاحقاً أصبح الرجل كما هو معروف رئيساً للولايات المتحدة بعد رونالد ريغان.

أحببت أن أبدأ مقالي بهذه الإشارة بعد ما لاحت بوادر فشل السياسي المخضرم ديفيد هيل في إقناع ساسة لبنان بما يتوجب عليهم فعله حتى يرى لبنان طوق النجاة الأخير، فما يعجز ديفيد هيل عن حله فهو الأمر الذي قد كتب عليه السقوط إلى الأبد.

كلنا يعرف ديفيد هيل صاحب الخبرة الواسعة في الوضع اللبناني الذي تأخذ زيارته ‏الوداعيّة للبنان بُعداً استثنائياً -قبل انتهاء مهمّته في منصبه- نظراً إلى التوصيات والتوجّهات التي سيتركها لمن ‏بعده.

السياسي الأنجح ديفيد هيل، والذي هو وكيل وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط، غادر بيروت بعد أن نكثت الدولة اللبنانية ورئيسها كل الوعود التي قطعوها للرجل الذي رعى النقاشات حول ترسيم الحدود البحرية وكانت بلاده تقف على أهبة الاستعداد لتسهيل المفاوضات بشأن الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل على الأسس التي بدأت بها تلك المباحثات، لولا أن رئيس الجمهورية قال للرجل ما نصه: “إنه يحق للبنان أن يطور موقفه وفقاً لمصلحته”، وهو أمر غير مستغرب بعد الإجراءات الفجائية التي اتخذها وزير الأشغال اللبناني يوم الإثنين، وتزامنت مع وصول هيل إلى العاصمة اللبنانية والتي اعتقد الموزاييك اللبناني بألاعيبه التي لا تنتهي أنها قد تؤثر على ملف المفاوضات بين لبنان وإسرائيل برمته، حيث شمل التعديل الجديد الذي وقعه وزير الأشغال إضافة 1430 كلم مربعاً إلى لبنان من حدوده البحرية المشتركة مع إسرائيل، ليصبح بذلك حجم المنطقة المتنازع عليها 2290 كيلومتراً، وذلك استجابة لمقترح تعديل أعلن عنه الجيش اللبناني الشهر الماضي بعد أن أملى عليه حزب الله هذه الشروط الجديدة.

وبالتالي، فلا التزامات ولا حدود، بل الحدود كما يفهم كل لبناني من هذه العبارة هي الحدود البحرية التي يرى حزب الله فيها حدود مصلحته.

وهذا يفسر الإعلان المفاجئ عن تراجع موقف رئيس الجمهورية عن التوقيع على مرسوم الحدود البحرية، حيث “الفذلكات” التي يتقنها من حوله والتي نطق بها البيان الصادر عن القصر عن “أحقية لبنان في تطوير موقفه وأن رئيس الجمهورية متمسك بدور أمريكي من موقع الوسيط النزيه والعادل”، مع التأكيد “على أسس انطلاق المفاوضات، من زاوية أنه يحق للبنان أن يطور موقفه وفقاً لمصلحته، وبما يتناسب مع القانون الدولي ووفقاً للأصول الدستورية”.. ومن زاوية “أن الرئيس عون مؤتمن على السيادة والحقوق والمصالح، ولن يفرّط بها”.. في موقف يلغي تماماً ما تعهد به لبنان في أكتوبر الماضي عندما انطلقت مفاوضات غير مباشرة بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود البحرية برعاية الأمم المتحدة ووساطة أمريكية، رعاها مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر.

هنا في واشنطن تتقاطع الأخبار أن هيل في هذا الاجتماع تطرق جواباً على هذا الموقف إلى التجاذبات التي ترتبت على تعديل المرسوم لزيادة حصة لبنان في المساحة البحرية بالمنطقة المتنازع عليها مع إسرائيل، ودعا إلى “إخراج المفاوضات من هذه التجاذبات التي يمكن أن تؤدي إلى نسف المفاوضات غير المباشرة بين البلدين برعاية الأمم المتحدة وبوساطة أمريكية”. وحذر من “عودة المفاوضات إلى نقطة الصفر، وهذا ما يعوق تحول لبنان إلى دولة نفطية يمكن أن تؤدي إلى الإفادة الاقتصادية منها لخفض منسوب الأزمات التي تزداد بسرعة لا يمكن السيطرة عليها”.

ومعنى هذا الكلام من وجهة نظري أن هيل أراد أن ينبه قادة لبنان إلى أن يأخذوا في الاعتبار رد فعل إسرائيل في حال أن لبنان قرر السير في تعديل المرسوم؛ وفيه دعوة الجانب اللبناني إلى الأخذ بالعلم بأنه لا مجال لمعاودة المفاوضات، كما أن في كلامه نصيحة بمعاودة استئناف المفاوضات انطلاقاً من النقطة التي وصلت إليها قبل أن تتوقف بسبب إصرار الوفد العسكري اللبناني على التقيُّد بالمرسوم المعدّل.. وهذا سيدفع إسرائيل للالتفات إلى التنقيب عن النفط في هذه المنطقة، كما أنه يلغي تماماً الخط الذي كان رسمه فريدريك هوف “الوسيط الأمريكي السابق” بين بيروت وتل أبيب وأن الخط “لم يعد مادة للتفاوض، وإلا فلماذا يبدي هو استعداد واشنطن لتقديم مساعدة فنية في هذا الملف للبنان ما دام لبنان مصراً على نكث وعوده والتزاماته؟”.

وبالتالي فالحقيقة أن هيل لمّح إلى “تجميد الوساطة الأمريكية ما لم يبادر لبنان إلى إعادة النظر في تعديل المرسوم”.. وهنا يمكنني القول دون مواربة إن هذا الملف قد أغلق بالنسبة للولايات المتحدة من ناحية كونها وسيطاً.

أما إذا انتقلنا إلى مساعي الرجل في قضية تشكيل الحكومة، فإن المسؤول الأمريكي أكد استعداد بلاده للمساعدة غير أن ما يجدر التوقف عنده هو كلامه عن الاستياء مما وصلت إليه الأزمة في لبنان والاتهام المباشر في سوء الإدارة في الوضع، بالرغم من أنه لم يضع تحفظات على الحكومة، فالمهم حسب مفهوم كلامه هو حكومة إصلاح ومعاقبة معرقلي الإصلاح، حيث بدا واضحاً قلق الإدارة الأمريكية إزاء عدم تشكيل حكومة جديدة، وتأكيده أن المجتمع الدولي لا يستطيع مساعدة لبنان من دون حكومة قادرة تتواصل معه، لكنه وللأسف خرج بقناعة وهي أن هناك مشكلة داخلية تؤخر تشكيل الحكومة، وأن بعض الأطراف تستعصي على تشكيلها استجابة للضغوط الإيرانية، وهذا ما يفهم من تحذيره من ربط التطورات الجارية في المنطقة بإمكانية الوصول إلى اتفاق في المفاوضات غير المباشرة التي تستضيفها فيينا بين الولايات المتحدة وإيران وعدم الرهان على المفاوضات الأمريكية – الإيرانية بذريعة أن نتائجها ستؤثر إيجاباً على مسار الأزمة اللبنانية؛ لأنه ليس هناك من يضمن أن لبنان سيكون في عداد الدول المستفيدة منها.

وفي خلاصة عن لقائه رئيس الحكومة، فإن كلام هيل يختصر في أن “مفتاح تقديم المساعدات للبنان لن يكون إلا بتشكيل حكومة غير الحكومات السابقة التي تتحمل مسؤولية انهيار البلد”، وأن هذه “الحكومة المقبلة يجب أن تلتزم بالمبادرة الفرنسية وبالإصلاحات الواردة فيها؛ لأنها من دون هذه المواصفات لا يمكنها التفاوض مع صندوق النقد الدولي طلباً للمساعدة المالية، خصوصاً أن التفاهم معه يشكل المدخل للحصول على مساعدات من المجموعة الدولية لأصدقاء لبنان”.

اليوم، يصبح لبنان ذكرى أليمة في يوميات ديفيد هيل الذي رأى هذه الساعة أجساد الفقراء والجوعى وقد تقاتلوا على كيس حليب وربطة خبز في نفس الساعة التي اندلعت فيها الحرب الأهلية في أبريل/نيسان قبل ٤٦ عاماً، اليوم كل الظروف قد تهيأت لحرب جديدة شعارها “كن مع حزب السلاح أو غادر واترك البلد فحتى الفيدرالية لن نمنحك إياها بسطوة سلاحنا”.. لبنان اليوم أمام أيام حساسة ومفصلية، وسط توقع بارتفاع منسوب الانهيار واتساعه.. بعد أن أصبح لبنان نقطة سوداء في الملف الشخصي لديفيد هيل الذي نجح في كل الملفات التي أدارها في حياته باستثناء الملف اللبناني المشؤوم.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى