سياسة

دولة المستقبل


في شهر نوفمبر ٢٠٠٨، شاركت في ورشة عمل عقدت في أبوظبي حول “هوية دولة الإمارات العربية المتحدة”.

 ولم يكن السؤال عن “العروبة” أو “الدين” أو “الثقافة المحلية”، الذي كان من المعتاد مناقشتها عند طرح القضية في كل دولة عربية أخرى. كان السؤال في حقيقته حول ما يميز الدولة عن دول العالم الأخرى.  

دولة الإمارات فريدة في فيدراليتها ووحدتها التي لم يسبق لدولة عربية أخرى أن سبقت في هذا المجال ونجحت فيه، لأنها بفضل شعبها ونخبتها الحاكمة أضافت فضيلة عميقة من التسامح، وأخرى لا تقل عمقاً عن قبول التنوع مهما كان منبته. بشكل ما فإن الإمارات جاءت لكي تضيف ما لم يكن موجوداً من قبل، وليس لاستنفاد تاريخ قديم أو الاعتماد على تقاليد عاشت في أزمنة أخرى، أو حتى الاعتماد على ثروة مثل النفط مهما كان لها من قدر فإنها إلى زوال، وإنما لكي تأخذ شعبها، وتخلق مثالا لدول أخرى، في الولوج إلى المستقبل.

بشكل ما فإن الإمارات استفادت كثيراً من تركيبتها الديموغرافية الشابة بكل ما يحمله ذلك من قدرة وعنفوان، ومن قيادة بحجم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، وبقية الآباء المؤسسين للدولة، الذين عرفوا أن حظ الدولة جاء في زمن لم تعد قضية “التقدم” متعلقة لا بالحجم السكاني ولا بمقدار التسلح ولا بالثروة النقدية، وإنما بما تملكه الدولة من معرفة وعلم، ومع هذا وذاك ما تملكه من طموح؛ وفي هذا كانت الدولة تملك الكثير.

كان الزمن الذي قامت فيه الدولة هو الذي عرفت فيه البشرية أن هناك حدوداً للكون تتجاوز بكثير الكرة الأرضية. كان عصر الفضاء قد بدأ في عام ١٩٥٨ عندما خرجت أولى المركبات السوفيتية للدوران خارج المدار الأرضي، وبعدها بدأ التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي على السبق في الخروج إلى سماوات بعيدة، وعندما أعلن الرئيس جون كينيدي عزمه على وصول أمريكي إلى القمر خلال عقد من الزمان فإن عصراً جديداً بدأ، ليس عندما وصل نيل أرمسترونج إلى سطح القمر وإعلانه عن أن خطوته الأولى على أرضه هي خطوة عظمى للبشرية كلها نحو مستقبل يختلف عن كل الأزمنة السابقة، وإنما عندما بات الفضاء مجالاً بشرياً للاتصالات والبحث العلمي.

ثلاثة أمثلة تطرح علينا كيف باتت دولة الإمارات دولة تجسد المستقبل في جميع أبعاده المادية والقيمية. أولها، وكنت شاهداً عليها، أن الدولة تبنت ما لم تتبنه لا دولة عربية ولا دولة إسلامية ولا دولة مسيحية من جمع لبابا الفاتيكان مع الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر لكي يوقعا وثيقة “الأخوة الإنسانية” التي سرعان ما باتت وثيقة عالمية أفردت لها الأمم المتحدة يوماً للاعتبار والاحتفال.

كان ذلك اختراقاً لما بات سائداً في السياسة العالمية عن احتقان دائم في علاقات العرب والمسلمين مع دول العالم الأخرى، خاصة الغرب والمسيحيين. كان في المحاولة اختراق إلى مستقبل قائم على الأخوة بين البشر مهما تعددت دياناتهم ومذاهبهم. وثانيها أن دولة الإمارات أصدرت قانوناً يعطي الجنسية لأصحاب القدرات الخاصة في العلم والمهارة والابتكار والإبداع؛ في سابقة تجعل “المواطنة” ليست جزءاً من التاريخ وإنما من المستقبل القائم على قدرات عالمية تتجاوز الجنس واللون والدين والمذهب والأصل والعنوان. وثالثها يمثل فتحاً كبيراً في عالم الخروج عن كوكب الأرض والمشاركة العربية في السباق إلى المريخ.

بات من حق دولة الإمارات العربية المتحدة الاحتفال بأول مهمة لها في اتجاه الكوكب الأحمر الذي طالما أثار خيال العلماء والباحثين والمستكشفين. لقد وضعت الإمارات “مسبار الأمل” في مدار حول الكوكب، ما يجعلها خامس كيان سياسي يرتاد الفضاء فقط للقيام بذلك بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (روسيا الآن) وأوروبا والهند. كان على المركبة الفضائية، التي غادرت الأرض قبل سبعة أشهر، أن تقوم بمناورة فرملة للتأكد من أنها ستلتقطها جاذبية المريخ، وهي عملية علمية وتكنولوجية بالغة التعقيد.

 ويمكن لعلماء الإمارات الآن التطلع إلى دراسة الغلاف الجوي للكوكب، حيث يحمل القمر الصناعي الخاص بهم ثلاث أدوات ستراقب، من بين أهداف أخرى، كيف تتسرب الذرات المحايدة من الهيدروجين والأكسجين – بقايا مياه وفيرة من المريخ – إلى الفضاء. في هذه العملية، سيعيد الأمل صوراً مذهلة عالية الدقة كاملة للكوكب. ويعمل الأمل الآن في شكل بيضاوي أولي حول المريخ يقترب من ١٠٠٠ كيلومتر من الكوكب ويخرج إلى ما يقرب من ٥٠٠٠٠ كيلومتر. وعلى مدار الأسابيع القليلة المقبلة، سيتم تقليص هذا المدار إلى ٥٥ ساعة، ويدور فيها ما بين ٢٢٠٠ كم وحتى ٤٣٠٠٠ كم، ويميل إلى خط الاستواء بنحو ٢٥ درجة.

يختلف هذا المسار اختلافاً كبيراً عن مسارات الأقمار الصناعية السابقة التي كانت تميل إلى العمل بالقرب من المريخ لتسهيل التقاط صور عالية الدقة للسطح والاتصالات مع الروبوتات التي تم هبوطها. ولكن من هذا المنصب العالي، يخطط الأمل لإجراء بعض الأبحاث الجديدة سوف تتبع كيف تتحرك الطاقة عبر الغلاف الجوي.

علمياً وتطبيقياً فإن “مسبار الأمل” أكثر تعقيداً بكثير من قدرة عالم في السياسة الدولية أن يستوعب ما فيه من إمكانات، ولكن الحقيقة كلها تكشف عن بداية للدخول في زمن وعصر جديد. لم تخذل التجربة التي مضى عليها ثلاثة عشر عاماً منذ انعقاد ورشة العمل في أبوظبي ما كان ممكناً تصوره في ذلك الوقت، وبرهن عليه ليس فقط ما تم إنجازه، وإنما في قدرة الدولة الفتية على تجاوز أزمات كثيرة عجزت دول كثيرة عن التعامل معها من أول الأزمة الاقتصادية العالمية إلى أزمات ما سمي “الربيع العربي” إلى أزمات الانخفاض الشديد في أسعار النفط، إلى ما ألم المنطقة من مواجع وصراعات، والعالم مؤخراً من “جائحة” لم تترك لا كبيراً ولا صغيراً من دول العالم إلا ووضعته أمام اختبار بالغ الصعوبة.

“دولة المستقبل” كانت قادرة دوماً على تجاوز الأزمات، لأنها كانت دائماً جاهزة للاستفادة من الفرص وفتح الطرق نحو مستقبل مختلف بات نموذجاً ليس فقط بين دول الخليج العربية، وإنما أضيف إلى نماذج سابقة عرفت أحياناً باسم النمور والفهود الآسيوية. الآن بات هناك نموذج عربي يتحدى في كثير منه ما بات معروفاً دولياً بـ”الاستثناء العربي” الذي يجعل العرب ببساطة خارج التاريخ والعلم والتقدم والمستقبل.

دولة الإمارات العربية المتحدة بتجربتها الأخيرة في “مسبار الأمل” تثبت للعالم أجمع أن مثل هذا “الاستثناء” مشكوك فيه طالما كانت هناك الإرادة والتفكير العلمي والقيادة الرشيدة التي تصنع في الدنيا ما لم يكن موجوداً بها من قبل. لم تعد القضية برجاً يتفوق على أبراج العالم جميعاً، وإنما هي اختراق لأجواز الفضاء إلى كوكب المريخ.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى