قضية مقتل جمال خاشقجي أوصلها البعض إلى أقصى الدنيا شرقاً وغرباً، وكان البعض يحسب أن ذلك بسبب بشاعة الجريمة أو محبة للمجني عليه، ولكن الذي أصبح واضحاً وجلياً أن الكثير ممن روجوا لذلك من قناة «الجزيرة» وقطر وتركيا وغيرها إنما كانوا يسعون لجعل مقتله سلعة في سوق المزايدات السياسية، ومحاولة لخلق أجواء تشبه تلك التي مرت أيام الربيع الأصولي العربي 2011.
كم هي بشعة المتاجرة بدماء القتلى، فهي عنوان صارخ لانعدام الأخلاق والإنسانية، وهي لا تقل بشاعة عن عملية القتل نفسها، والأمر الواضح من البداية هو أن الهدف لم يكن معرفة الحقيقة، بل استهداف المملكة العربية السعودية، واستهداف قيادتها واستقرارها ووحدتها وأمنها، وقد بذل الخصوم كل ما يملكون لتحقيق هذا الهدف، ولكنهم -كالعادة- عادوا بخفي حنين.
اكتشفت الدولة السعودية المكيدة مبكراً، وحرصت كدولة على الاهتمام الكامل بمصير مواطنها القتيل وسعت جهدها للكشف عن جميع الحقائق بشفافية عالية، وتسلمت النيابة العامة السعودية ملف القضية وباشرت التحقيق مع المتهمين بعد اعتقالهم، وسعت للتعاون مع تركيا قدر المستطاع ولكن تركيا لم تستجب لـ3 طلبات سعودية للمساعدة على كشف أبعاد القضية لحسابات خاصة لديها.
يوم الخميس الماضي عقد المتحدث باسم النيابة العامة مؤتمراً صحفياً أوضح فيه أبعاداً مهمة وحقائق تكشّفت عن تفاصيل تلك الجريمة النكراء، وقد ظهرت الشفافية في أعلى مستوياتها، في قضية تستغرق مثيلاتها سنوات من التحقيق والتمحيص وجمع المعلومات والحقائق، وهو يمثل نجاحاً للنيابة العامة السعودية في كشف أبعاد الجريمة ومحاسبة المسؤولين عنها والمشاركين فيها.
تصريحان صدرا الأسبوع الماضي يلقيان ضوءاً مهماً على هذه القضية؛ الأول لوزير الخارجية الفرنسي أكد فيه أن فرنسا لم تتسلم أي تسجيلاتٍ من تركيا على خلاف تصريحات الرئيس التركي، وأكد أن الأخير يلعب لعبة سياسية، أما التصريح الآخر فكان لمستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون بأن لا شيء لدى الأتراك يدين القيادة السعودية.
هذه القضية هي الشذوذ الذي يؤكد القاعدة في سياسة الدولة السعودية، فلم يعرف عنها قط ملاحقة المعارضين في الخارج بأي شكل من الأشكال، بل إن بعضهم مدان بالمشاركة في محاولة اغتيال الملك عبدالله بن عبدالعزيز حين كان ولياً للعهد مثل سعد الفقيه، ولم تتعرض له السعودية بأي أذى، ومن قبله شخصيات أخرى قامت السعودية بدعمهم في أواخر حياتهم ورعاية أسرهم مثل عبدالله القصيمي وعبدالرحمن منيف وغيرهما الكثير.
الهجمة الشرسة وغير المنطقية التي صاحبت القضية في الإعلام الغربي أسقطت مصداقية الكثير من وسائله، حين تحولت إلى منصات اتهام وتلفيق أكثر منها باحثة عن خبر ولاهثة خلف معلومة، وهو ما جعلها مطية لأصحاب المصالح والعداوات، وإلا فكيف تفرد صحيفة مثل «واشنطن بوست» مساحة لصاحب أكبر سجل في اعتقال الصحفيين على مستوى العالم ليتحدث فيها عن الحرية! وكيف تفرد مساحة لأحد أكبر الإرهابيين في اليمن ليدافع عن إرهابه! ثم تتعامل بخفة مع معلوماتٍ تتعلق بالسفير السعودي في واشنطن الأمير خالد بن سلمان، ما جعله يعلق لإيضاح الحقائق، ويطالب واشنطن بالكشف عما لديها إن كانت هذه الادعاءات صحيحة.
مثل هذه القضية المعقدة لا تتكشف خيوطها كاملة إلا بعد سنوات طويلة، ولكن هذا لا يمنع على الإطلاق من إدانة من ثبتت إدانته بالأدلة من قبل النيابة العامة والمحاكم المتخصصة في السعودية، ذلك أن المقتول مواطن سعودي، والمشاركين في جريمة قتله مواطنون سعوديون، ومكان القتل أرض سعودية، هذا في المسار الجنائي والقانوني الذي ينبغي أن تكون له الأولوية القصوى في الوصول إلى العدالة.
هناك قضايا كبرى في التاريخ الحديث قامت فيها اتهامات ومحاكمات سياسية ثم ثبت لاحقاً أنها لم تكن بالوضوح الذي تم التعامل معها به، وأوضح مثالٍ على هذا قضية لوكيربي، التي اتهم فيها العقيد معمر القذافي وتمت معاقبته وإجباره على دفع تعويضات مالية طائلة، ثم كشفت الأيام عن دور إيراني مهم في تلك العملية لم يتم التطرق إليه سابقاً.
على المستوى الجنائي تم إصدار كثير من الأحكام حول العالم ضد بعض المتهمين بجرائم قتل أو اغتصاب أو نحوهما من الجرائم البشعة، وتم تنفيذ الأحكام والزج بهم في السجون أو تنفيذ الإعدامات وبعد اكتشاف الـ«دي إن إيه» تمت تبرئة بعضهم وإدانة آخرين لم تتوفر الأدلة القاطعة لإدانتهم سابقاً، بمعنى أن قضية بحجم قضية خاشقجي كانت فيها صراعات ومعلومات لم تتكشف بعد، لا أقصد الجانب الجنائي، بل الجانب السياسي والإعلامي لأطراف سعت لتصعيد القضية لا بسبب أخلاقي أو إنساني بل لغرض المتاجرة بدم القتيل للإضرار بالسعودية.
الأهم في نظر كاتب هذه السطور أن السعودية تجاوزت الأسوأ في هذه الأزمة، فتعاملت معها بكل الشفافية الممكنة، وتتابع تطوراتها بضمانة القيادة السياسية بإظهار الحقائق كافة، وتخصص النيابة العامة في متابعة القضية وتفاصيلها، وصولاً إلى المحاكمة العادلة وتنفيذ الأحكام الصادرة عن القضاء.
وأثبتت السعودية للعالم أجمع وخصومها في المنطقة أنها دولة راسخة البنيان وشرعيتها ضاربة الأطناب في التاريخ والواقع، وأن اللُّحمة بين الشعب والقيادة واثقة العُرى، خاصة حين يستهدفها الخصوم والأعداء، كما أثبتت لخصومها أنها صلبة العود، قوية الشكيمة، واقعية القرار، مستقبلية الرؤية والأهداف.
وكذلك أثبتت للعالم وخصومها أنها دولة قائدة ورائدة في المنطقة، فلا أحد قادر على التصدي للمشروع الإيراني الطائفي الإرهابي إلا السعودية، ولا أحد قادر على هزيمة الإرهاب والأصولية وتجفيف منابعهما إلا السعودية، وأن أسواق الطاقة العالمية تؤثر فيها السعودية بشكل كبير، وهي تستثمر مع الإمارات في أسواق الغاز، وهو مجال تدخله بقوة بعدما كانت لا تعيره كثيراً من الاهتمام لأسباب معروفة.
وقبل هذا وذاك هي بلاد الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين، وهي مهبط الوحي وفيها قبر الرسول الكريم، وهي عمود الخيمة العربية في هذا الوقت، وهي التي تقود حرباً ضد أذناب إيران في اليمن، وتواجه إيران في العراق وسوريا ولبنان، كما تواجهها في أكثر من قارة.
أخيراً.. سعى كثيرون لتسييس قضايا جنائية أو حقوقية أو إنسانية ضد السعودية، وفشلوا جميعاً وبقيت السعودية، وهذه القضية لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة.