بعيدا عن الخطابات، يتمنى المحافظون البريطانيون أن يوحّد ريشي سوناك الحزب الحاكم قبل الانتخابات البرلمانية المقررة عام 2024.
رئيس الحكومة الجديد، المنحدر من أصول آسيوية، لم يأتِ عبر انتخابات عامة، ولم يختره البرلمان، ولا يتوافق حوله النواب المحافظون، وحتى لم ينتخبه أعضاء الحزب الحاكم، كما وقع الأمر مع سابقته ليز تراس قبل أشهر قليلة.. المملكة المتحدة بأكلمها أُسقط في يدها ودخل “سوناك” إلى المنزل رقم 10 في لندن.
مجموعة من النواب المحافظين في البرلمان جاؤوا برئيس الحكومة الجديد.. 200 نائب من أصل 357 نائبا للحزب الحاكم قرروا استبداله بـ”تراس”.. حُجتهم كانت الأخطاء الاقتصادية، التي ارتكبتها خلال ولايتها، التي امتدت 44 يوما فقط.. لم يقبلوا باعتذار منها، ولم يعطوها فرصة للإصلاح والتقويم.
“تراس” كانت قد بدأت الإصلاح عبر تعيين وزير الخزانة جيريمي هانت.. ولكن الرافضين لها بين قادة الحزب الحاكم أداروا ظهورهم لها وأصروا على رحيلها.. اختاروا مَن دفعوا به قبل أشهر ورفضته القاعدة الشعبية للحزب.. ونصّبوه ثالث رئيس للوزراء خلال عام واحد، فسقطت شعبية “المحافظين” إلى الحضيض.
تقول استطلاعات الرأي إن شعبية “المحافظين” وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ نحو ثلاثة عقود.. والفارق بين المؤيدين لزعيم المعارضة العمالية، كير ستارمر، وسوناك، يبلغ عشر نقاط على الأقل.. وهو يعني أن البريطانيين قرروا إزاحة الحزب الحاكم من السلطة خلال الانتخابات العامة المزمع عقدها في 2024.
والسقوط الحر في شعبية الحزب الحاكم لم يأتِ بسبب أخطاء “تراس” فقط.. فقد بدأ السقوط مع “فضائح الحفلات”، التي طالت رئيس الوزراء الأسبق، بوريس جونسون، ووزير خزانته حينها، ريشي سوناك.. أُدين جونسون وسوناك في تلك الفضائح، ولكن المفارقة أن “جونسون” أُجبر على الاستقالة و”سوناك” فاز بكرسي السلطة.
هي حالة من العبث عاشها “المحافظون” هذا العام رغم كل الظروف الدولية والداخلية التي تضغط على البريطانيين سياسيا واقتصاديا.. وهذا العبث عنوانه “صراع أجنحة” داخل الحزب الحاكم خرج عن السيطرة وانفجر في وجه سكان المملكة المتحدة، ليهبط بشعبية الحزب ويضع جميع مقومات الدولة على المحك.
انقسام النواب المحافظين لم يعُد خافيا على أحد.. ورافضو “سوناك”، أو الناقمون عليه، إن جاز التعبير، لن يتأخروا عن عرقلة رحلته إنْ لم يستطع إقناعهم بأنه يمثل الحزب والبلاد.
الجبهة بين المعسكرين تحت قبة البرلمان قد تهدأ أياما أو أشهرا على الأكثر، ولكن السلام لن يعمّ للأبد، لأن الخلافات كبيرة وكثيرة.
توحيد الحزب الحاكم هي أصعب المهام التي سيواجهها “سوناك”.. والبريطانيون بشكل عام لا يميلون إلى تأييد حزب يعاني الانقسام.. خاصة إنْ عاشوا أياما صعبة في ظل هذا الانقسام، كما يحدث اليوم.
وما يزيد الأمر تعقيدا، هو الظروف العالمية التي تضغط على المملكة المتحدة في سياساتها الاقتصادية والسياسية.
لا يملك “سوناك” أي حلول سحرية للمشكلات الاقتصادية الراهنة.. وهو مجبَر على جملة قرارات ستزيد كُلفة العيش وعبء الشتاء على البريطانيين.. وكلما اشتدت الحاجة وضاق العيش في البلاد زاد السخط الشعبي على “المحافظين”، وكثرت نقاط الضعف التي يمكن للمعارضة أن تستغلها ضدهم.
المعارضة العمالية، التي تتمتع بغالبية لم تعرفها منذ 1997، في نيّات التصويت للانتخابات العامة، لا تحتاج إلا إلى التركيز على تردّي الأوضاع المعيشية في عهد المحافظين بعد انتهاء جائحة كورونا.. ولم تعد ذرائع كالتضخم وارتفاع أسعار الطاقة عالميا والحرب الروسية-الأوكرانية مفيدة بالنسبة للحزب الحاكم.
للمشكلات الاقتصادية أبعادٌ أخرى تثير قلق “سوناك” وجماعته.. فهذه المشكلات يسوقها الحزب القومي الاسكتلندي في إطار الأسباب التي تستدعي إنهاء الوحدة بين إدنبرة ولندن.. وهي برأي زعيمة الحزب ورئيسة الحكومة الاسكتلندية، نيكولا ستيرجن، نتائج بدَهية للخروج “الخاطئ” من الاتحاد الأوروبي.
في بلفاست أيضا يستغل الساسة والأحزاب فشل حزب المحافظين في تطبيق “بريكست”.. يطالبون حكومة لندن منذ أشهر طويلة بإلغاء أو تعديل البروتوكول الخاص بأيرلندا الشمالية في اتفاق التجارة المبرم بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي نهاية عام 2020، ولكن الحزب الحاكم منشغل بانقساماته الداخلية.
الفشل في تطبيق “بريكست” تحوّل إلى خطر حقيقي يهدد وحدة المملكة المتحدة من جهة، وعلاقاتها الخارجية من جهة أخرى.. فالخلافات حول بروتوكول أيرلندا الشمالية قد تقود إلى حرب تجارية بين لندن وبروكسل، وربما تصل إلى انهيار اتفاق السلام بين شقي الجزيرة الأيرلندية أو لانفصال اسكتلندا وبريطانيا.
حتى علاقات المملكة المتحدة الاقتصادية مع العالم الخارجي ترتبط إلى حد بعيد بالمصالحة بين لندن وبروكسل.. فالإدارة الأمريكية تؤيد موقف الاتحاد الأوروبي في ضرورة الوصول إلى تسوية سلمية لأزمة بروتوكول أيرلندا الشمالية.. كما أن دولا عدة تتجنب زيادة تعاونها التجاري مع بريطانيا بسبب ذات الأزمة.
في ظل كل هذه المشكلات تُمتحن قدرة “سوناك” على قيادة حزب المحافظين نحو الفوز في الاستحقاق التشريعي المقبل.. وغاية كبيرة مثل هذه لا تحققها الدعاية المرافقة لاختيار أول رئيس للحكومة من أقلية عرقية في تاريخ المملكة المتحدة.. ولا يمكن بلوغها عبر تكرار ذات الوعود التي لم تتحقق خلال 5 سنوات.
إنْ أخفق أول زعيم بريطاني آسيوي للمحافظين في إنقاذ الحزب الحاكم، فلن يُسجَّل ذلك على الجالية الهندية التي ينحدر منها.. ولا يمكن تبريره بعنصرية وقفت في طريق “سوناك” لأنه لا يحمل بشرة بيضاء.. الأمر ببساطة يفسَّر بفشل المحافظين في قيادة المملكة المتحدة بعد “استقلالها” عن الاتحاد الأوروبي.
رئيس الوزراء الأشهر في تاريخ المملكة المتحدة وينستون تشرشل نُقل عنه “أنّ كل شعب في العالم ينال الحكومة التي يستحقها”.. استطلاعات الرأي تؤكد أن البريطانيين فضلوا الانتخابات المبكرة على استمرار المحافظين في السلطة، والأيام وحدها ستثبت إن كانوا على صواب أم تعجلوا في الحكم على “سوناك”.