حزب الله ومحور الانتصارات.. إدمان الكذب على النفس
لم يسبق أن أدمنت شعوب على “الانتصار” كما يدمن “شعب الممانعة”، أي الجماهير التابعة لإيران، من طهران، مرورا بالمستعمرات الإيرانية في الدول العربية التي يديرها شيعة يقولون إنّهم “جنود في ولاية الفقيه”، وصولا إلينا، نحن اللبنانيين الذين نعيش تحت رحمة حزب الله وتبعيته لإيران.
في عام 2006، وبعد انتهاء حرب يوليو/تموز، التي دمّرت نصف ضاحية بيروت الجنوبية، القرار الدولي رقم 1701 أبعد مقاتلي حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، وأجبر الحزب على قبول انتشار الجيش اللبناني في جنوب لبنان، بعدما كان يرفض هذا الإجراء منذ عام 2000.
لكنّ نصر الله خرج مبشّرا بـ”الانتصار الإلهي”، ووصلت إلى الضاحية، على اللوحات الإعلانية، صور نصر الله مع لافتات “الانتصار الإلهي”، باللغتين العربية والإنجليزية، قبل عودة أهالي المنطقة، بعد إعلان وقف الأعمال العسكرية بين لبنان وإسرائيل.
كان ضروريا إعلان النصر، ولو على رماد الضاحية. نصر من رماد، لكن قال يومها نصر الله إنّنا “أمام نصر استراتيجي وتاريخي” في خطاب 14 أغسطس/آب 2006. وأكمل في الخطاب نفسه أنّ حزبه سيوزّع أموالا ليشتري النازحون أثاثا ويستأجروا منازل بدل “خمس عشرة ألف وحدة سكنية” هدمها القصف الإسرائيلي.
هكذا أعلن نصر الله يومها الانتصار، أمام مليون نازح شيعيّ، و15 ألف وحدة سكنية مهدومة، (تبيّن أنّ الرقم أكبر بكثير)، ورغم فرض شروط عسكرية وأمنية على حزبه وسلاحه.
مرّت انتصارات كثيرة مماثلة، فحين اجتاح حزب الله بيروت والجبل، في 7 مايو/أيار 2008، اعتبره نصر الله “يوما مجيدا”، وكانت النتيجة أن صار سلاحه “مطلوبا” و”مكروها”، في لبنان وفي الدول العربية. وصور نصر الله التي كانت تزيّن صالونات السنّة والمسيحيين، أنزلها هؤلاء وأحرقت في الشوارع، كما حصل علنا في بعض مناطق عكّار والشمال. وخسر الانتخابات النيابية في 2009 بسبب جملة “اليوم المجيد”، وحقّق سعد الحريري انتصارا كاسحا في الانتخابات النيابية عام 2009، قبل أن يدفع الثمن في انتخابات 2018 بموافقته “الفخورة” على قانون الانتخابات.
وها نحن اليوم أمام انتصار جديد أعلنه نصر الله في 6 يناير/كانون الثاني، حين قال خلال تأبينه قاسم سليماني ومباركته بـ”شهادته”: “نحن لا نُهزم، عندما ننتصر ننتصر، وعندما نُستشهد ننتصر”.
هكذا اختصر الطريق على أيّ نقاش: “عندما نُستشهد ننتصر”. وأضاف: “يوم الخميس ليلا هو أيضا يوم انتصارٍ للمقاومة ولمحور المقاومة ولرجال المقاومة، وسيكون نموذجا جديدا لانتصار الدم على السيف إن شاء الله”، قاصدا ليلة اغتيال سليماني، قائد محور الممانعة، والرجل الثاني في طهران، وربّما الأوّل بصفته قائد “المستعمرات” الإيرانية في الدول المجاورة، خاصة العربية. وبصفته أيضا المسؤول عن تصدير النفوذ الإيراني وتوسيعه.
لا يمزح نصر الله. لا يوجد في قاموسه أيّ أثرّ لهزيمة محتملة. فالرواية الحسينية التاريخية تقوم على “انتصار الدم على السيف”، وعلى انتصار الإمام الحسين رغم أنّ رأسه قُطع ونساءه سُبيت. كيف ستقنع نصر الله إذن بأنّ قتلَ رجلٍ أو خسارة انتخاباتٍ أو خسارة معركةٍ، هي هزيمة؟
بالطبع مفهوم النصر الذي يستعمله نصر الله، لا معيار منطقيا له، بل معياره عقائديّ، وليس علميا. في العقيدة الإسلامية، التعبئة المعنوية تذكّر المؤمن أنّ موته مكسبٌ له، وأنّه ذاهب إلى الجنّة. لكنّ هذا يختلف عن “النصر”. “الشهادة” التي هي “إحدى الحسنيين”، يمكن اعتبارها نصرا ذاتيّا، لكن ليس بالضرورة “انتصارا” لمجموعة. فالمؤمن المهزوم تعطيه الكلمات قوّة معنوية، وتماسكا نفسيا، بحيث لا يشعر بالانكسار والضعف والهزيمة، مهما كانت الظروف.
على سبيل المثال، فإنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حين قتل سليماني طلب خصومه “الديمقراطيون” في الداخل الأمريكي أن يقدّم لهم جردة بـ”جدوى الضربة”، ضمن ما “يقبل القياس”. أما نصر الله فلا همّ لديه إذا تدمّر لبنان كلّه. وهو الذي تجاهل في خطابه الثاني لبنان بشكل كامل. وفصل جمهوره بشكل كامل عن الواقع اللبناني، متحدّثا عن “رسائل كثيرة وصلتني هذا الأسبوع من إخوة ومن قياديين ومن مسؤولين في المقاومة يطلبون الإذن لهم بتنفيذ عمليات استشهادية”، وتابع: “هذه صنعتها من جديد أو دفعتها من جديد أو بالحدّ الأدنى أخرجتها إلى السطح، إلى العلن، هذه الشهادة العظيمة والمظلومة” لسليماني.
إذن معيار نصر الله غير واقعي. هو ينشئ معيارا خاصّا به، غير متوافَق عليه ضمن الأطر المنطقية.
وهنا يأتي التوظيف الأيديولوجي للنصوص الدينية.
الدكتور وجيه قانصو، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، والباحث المتخصّص في الفكر الإسلامي، يذكّر بأنّ بعضا من الخطاب القرآني وجه النقد للمؤمنين، وذلك في العديد من المحطّات. مثلما عبّرت الآية 25 من سورة التوبة بعد معركة حُنَين: ((لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حُنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تُغنِ عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحُبت ثم ولّيتم مدبرين)).
ويلفت قانصو إلى “النقد الذاتي” الذي يرفض نصر الله القيام به، وإصراره على “إنتاج خطاب انتصار يوجّهه إلى قاعدة شعبية ترتبك وتصاب بتصدّع نفسيّ أمام أيّ هزيمة ماديّة أو عسكرية، وتحتاج إلى تعويض معنوي مستمرّ عن لحظات الشعور بالهزيمة”.
نصر الله هو نفسه “مصدر هذا الشعور الوهمي بالانتصار الدائم، الذي يجرّ بيئته إلى انفصام تامّ عن الواقع وإلى عجز مخيف عن قراءة الواقع بمعطياته الموضوعية، واستبدالها بقراءة غير علمية وغير منطقية”، بحسب قانصو.
ويعد قانصو أنّ “النبيّ كان يحرص على إعطاء الثقة المعنوية للمؤمنين ويعوّض عليهم الخسارة المادية بإظهار أنّ مكاسبهم في الآخرة أكبر بكثير من خسارتهم الماديّة، لكن في الوقت نفسه لم يخرج الخطاب النبويّ عن التعامل مع معطيات الواقع بموضوعية وعن ممارسة نقد موضوعي للجماعة المحيطة به في كثير من المحطّات، فكان يوازن بين القوّة المعنوية والرشد العقلي في التعامل مع الواقع”.
لكنّ البيئة التي ربّاها حزب الله، المعرّضة للشعور بالهزيمة والضعف، في لحظات الانكسار، مدفوعة بالخوف أمام مقتل أحد أبرز قادتها، وهي المُعتادة على أنّها لا تُهزم وأنّها تتدحرج من انتصار إلى انتصار، وجد نصر الله نفسه أمامها مجبرا على ادّعاء الانتصار، ولو على رماد الشهادة.
إنّه “إدمان الكذب على النفس”.
نقلا عن العين الإخبارية