سياسة

حرب التقارير الباردة ومستقبل المنطقة


لا يراودني كمحللة سياسية أي شك في أن الحرب الباردة التي انتهت مطلع التسعينيات بين الولايات المتحدة وروسيا ما زالت تتوالى فصولاً.

تنتهي في الغالب الأعم باستراحة المتحاربين لزمن ليس بالطويل، واليوم حديث العالم كله عن التقرير الأمريكي حول التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية نهاية العام الماضي، في فصل صغير ومختصر من تلك الحرب، حيث إن التدخل الروسي ظهر في هذه القضية بالذات أكثر تنظيماً وسرية وليس على نفس النطاق أو التأثير الذي ظهر في اختراق وتسريب رسائل البريد الإلكتروني للديمقراطيين في عام 2016، كما تابعنا جميعا وقتها.

التقرير الأمريكي يجزم بأن روسيا لم تتوقف قط عن التدخل في الانتخابات الأمريكية، بل وصف مساعيها في انتخابات الكونجرس في عام ٢٠١٨ بأنها كانت “بروفة للعرض الكبير في عام ٢٠٢٠”، بينما ترى روسيا أن تلك “أوهام مرضية لا علاقة لها بالحقيقة”.

لكن ولا شك أن الانتخابات الأخيرة كانت أهم انتخابات في تاريخ أمريكا، ولا يمكننا أن ننكر رغبة أعدائها الكثر في التأثير على تلك الانتخابات.. وأولئك الأعداء الذين كشفهم التقرير هم، حسب وكالات المخابرات الأمريكية، روسيا وإيران اللتان اتهمتا بمحاولة التدخل في الانتخابات الرئاسية، وأما كوبا وفنزويلا ومليشيا حزب الله اللبنانية فقد حاولت التأثير أيضاً على العملية، لكن تأثيرها كان محدوداً كما ورد في التقرير.

ما استوقفني بشكل خاص هو أنه منذ عام ٢٠١٦، كانت الدولة الأمريكية ومخابراتها وكذلك شركات التواصل الاجتماعي بطيئة في مواجهة التدخل الروسي -إن وجد فعلا-، وقتئذ فلماذا لم يسكتوا هذه المرة وتحدثوا بصوت عالٍ عما يقومون به بل إن الاستخبارات الأمريكية أصبحت تنشر تقييماتها بشكل منتظم؟

البعض في بلادنا العربية يسأل مستغرباً كيف يكون ذلك التدخل في تلميح ضمني إلى صدقية الموقف الروسي الذي رأى في التقرير “فرقعات إعلامية”، لكن الحقيقة التي لا أشك شخصياً فيها أنه كانت هناك بالقطع “حملات استهداف”، إما أنها بتوجيهات روسية وإيرانية واسعة النطاق وإما بقيام مجموعات من تلقاء نفسها تدور في ذلك الفلك عملت على استهداف قطاعات بنى تحتية أساسية عدة، وأثرت بالتالي على أمن شبكات عديدة كانت تتولى إدارة بعض المهام الانتخابية في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، لكنّها – وقد جزم التقرير الأمريكي بذلك – لم تؤثر مادياً على صحة بيانات الناخبين، أو على القدرة على التصويت وفرز الأصوات ونشر نتائج الانتخابات في مواعيدها، لكن يبقى ذلك في نهاية المطاف تأثيراً على أمن شبكات على صلة بمنظمات سياسية أمريكية ومرشحين وحملات لواحدة من أهم الانتخابات منذ قيام الديمقراطية في العالم.

الأسبوع الطالع هو أسبوع العقوبات الأمريكية على روسيا، التي ستكون مضطرة لاتخاذ كل ما يلزم من تدابير لدفع المخاطر المرتبطة بالعقوبات المحتملة، لكن هل تستطيع أن تقوم بإجراءات مضادة تجاه المارد الأمريكي؟

لطالما كانت مشكلة روسيا منذ ما قبل غورباتشوف غير قادرة على تحقيق نجاح مسبق في التنبؤ بأي احتمالات أو أي سيناريوهات لسلوك خصمها الأمريكي، وقد يكون استهداف دول أخرى معها في تلك العقوبات دافعاً لها لتصف السلطة الأمريكية بالتخبط في القرارات عبر اختلاق الكثير من الخصوم، لكنني أرى أن على الرئيس بايدن أن يدرك أن هناك دولا أخرى وليست روسيا وحدها، التي تشكل التهديد الرئيسي له ولبلاده، حيث إنها تسعى لتقوية نفوذها في الحياة السياسية في الولايات المتحدة منذ زمن طويل عبر استهداف الشخصيات السياسية المعادية لسياساتها ومصالحها التي تهددها الإمبراطورية الأمريكية.

اليوم تعلنها وزارتا الأمن الداخلي والعدل الأمريكيتان، وتقولان صراحة إن روسيا وإيران استهدفتا بنى تحتية للانتخابات الأمريكية الأخيرة التي أجريت في عام 2020، من دون أن يؤثر ذلك على النتائج، لكن هذا الاعتداء لن يمر دون رد بدأت إرهاصاته تلوح في الأفق مثل الرغبة الروسية الحثيثة في تجديد معاهدة ستارت النووية، بالرغم من أن الولايات المتحدة كانت قد فرضت قبل أيام قليلة عقوبات على أربعة مسؤولين روس كبار بسبب معاملة موسكو للسياسي المعارض أليكسي نافالني، في خطوة اعتبرتها روسيا تدخلاً غير مقبول في شأنها الداخلي ولم تزد على ذلك.. الخلاصة يا سادة أن زمن كورونا سيحمل في الأيام المقبلة معه زمناً جديداً هو زمن العقوبات المتبادلة بين القوى المؤثرة في العالم التي نصلي جميعاً لأجل أن تبقى الحروب بينها حروباً باردة لا نكون نحن أهل الشرق الأوسط فيها مجرد “فرق عملة”، كما العبارة الشهيرة التي كانت تقال في بلدي لبنان يوم كان لديه عملة اسمها “الليرة”.

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى