جمود سياسي وانفجار اجتماعي في لبنان
عادت أخبار لبنان إلى دائرة الضوء الإعلامي بعد الزيارتين اللتين قام بهما سعد الحريري المكلَّف برئاسة الوزراء إلى قصر الرئاسة في بعبدا.
ولقائه الرئيس ميشال عون.
كان لقاء الحريري الأول يوم 18 مارس هو اللقاء السابع عشر بين الرجلين منذ تكليفه بمهمة تشكيل الوزارة في 23 أكتوبر 2020، واختلافهما حول هذا التشكيل. انعقد هذا الاجتماع بعد أيام عاصفة وملبَّدة بالغيوم، اتَّهم فيها رئيس الجمهورية الحريري بالكذب، في مقطع مسجَّل تم تسريبه، وأنه ما دام لا يستطيع تشكيل الوزارة فإن عليه أن يعتذر رسمياً عن هذه المهمة. وردَّ الحريري ببيانٍ غاضبٍ اتَّهم فيه عون بتعطيل تشكيل الوزارة، وطالبه بدوره بالاستقالة والدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة.
لم يكن من شأن هذا الاجتماع إحداث تغيير على حالة الجمود السياسي التي يعيشها لبنان باستثناء أنه فتح الباب لعودة الاتصالات المباشرة بين الرجلين والتي سُرعان ما دخلت في طريقٍ مسدود بعد الاجتماع الثاني الذي عُقد في 22 مارس، وصرَّح بعده الحريري بأن الرئيس يريد أن يفرض عليه رؤيته الخاصة للتشكيل، وهو ما يرفضه تماماً. وردَّت الرئاسة بأن تصريحات الحريري مُخالفة للحقيقة.
والمشكلة أنه لا توجد آلية في الدستور اللبناني لحل هذا الخلاف، فهو ينص بوضوح على أن تشكيل الوزارة يتم بالتشاور بين الرئيس ورئيس الوزراء المكلَّف، وأن قرار التشكيل يجب أن يُصدِّق عليه الرئيس. ويزيد الأمر صعوبة أن الرئيس لا يستطيع أن يسحب التكليف من رئيس الوزراء الذي تم تكليفه. والنتيجة أن أزمة التشكيل الوزاري في ظل احترام قواعد الدستور سوف تظل مستمرة ما لم يصل الحريري وعون إلى اتفاق بينهما.
والقضايا محل الخلاف معروفة، وجوهرها هل تتكون الوزارة من خبراء واختصاصيين أكفاء يختارهم رئيس الوزراء مع الأخذ في الاعتبار التمثيل الطائفي والمذهبي وهو الرأي الذي يتمسك به الحريري، أم أن يتم الاختيار وفقاً لترشيحات الأحزاب والكتل السياسية بدعوى أن وزارة خبراء واختصاصيين لن تكون لها قوة سياسية تذكر، ولن تتمكن من اتخاذ القرارات الصعبة التي تتطلبها مواجهة الوضع المتدهور في البلاد، وهو الرأي الذي يتبناه عون وحليفه “حزب الله”.
وتتمثل وجهة نظر الحريري في أنه يقوم بتنفيذ خطة العمل التي وافق عليها رؤساء جميع الأحزاب والكتل، بما في ذلك رئيس الجمهورية وحزب الله مع الرئيس الفرنسي ماكرون، وأن هذه الخطة هي الوحيدة التي تضمن خروج لبنان من أزمته الطاحنة، لأنها سوف تقيم وزارة على أساس الكفاءة والجدارة، وأنه لن يكون فيها “الثلث المعطِّل”، أي أن يتم تعيين ثلث عدد الوزراء من المخالفين لتوجه رئيس الوزراء، مما يمكِّنهم من تعطيل أعمال الحكومة وقراراتها. وأنها تستجيب لتوقعات أصدقاء لبنان من دول عربية وأجنبية والتي ربطت تقديم مساعداتها الاقتصادية بتنفيذ هذه الخطة، وهو نفس الموقف الذي اتخذه صندوق النقد الدولي.
تستمر هذه التجاذبات في وقتٍ يشهد فيه اللبنانيون انهياراً مروعاً في مستوى معيشتهم، خاصة مع وصول سعر صرف العملة اللبنانية إلى 15 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، بعد أن عاش لبنان لسنوات طويلة استقر فيها سعر الصرف على 1500 ليرة للدولار الواحد! ما أدى إلى ارتفاع نسبة التضخم، والتي بلغت 85% في 2020، وازدياد أسعار السلع الأساسية ومنها الخبز الذي رفعت وزارة الاقتصاد والتجارة ثمنه هذا الأسبوع للمرة الثالثة منذ يونيو 2020 وكذلك اللحوم والوقود والمحروقات، واختفاء كثير من أدوية الأمراض المزمنة، وانتشار المشاجرات اليومية في المجمعات التي تبيع السلع الغذائية المدعومة من الدولة. وأغلق كثير من المحال والمتاجر أبوابها، ما ترتب عليه ازدياد نسبة المتعطلين إلى 32% حسب البيانات الرسمية في ديسمبر 2020. وتستفحل الأزمة الاقتصادية بإعلان الحكومة توقف لبنان عن دفع أقساط ديونه وتوجيهها البنك المركزي بعدم استخدام موارده المالية لمساعدة الليرة على الاحتفاظ بقيمتها.
رافق ذلك انهيار مماثل في القطاع الصحي وقدرة المستشفيات العامة والخاصة على التعامل مع المصابين بفيروس كورونا الذين بلغ متوسط عددهم في شهر مارس الجاري 3 آلاف مصاب يومياً. واستغل تنظيم داعش هذه الأوضاع للتغلغل وإنشاء خلايا له كما كشفت عن ذلك إدارة المخابرات الحربية في نفس الشهر.
كان من شأن كل ذلك شيوع حالة من الإحباط واليأس والغضب بين عموم الناس. مشاعر الإحباط بسبب عدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية للأسرة، خصوصاً الأطفال والرضع وكبار السن، واليأس بسبب عدم وجود بدائل أو آفاق لتغيير الوضع الراهن، والغضب تجاه النخبة الحاكمة التي أدت سياساتها الاقتصادية والاجتماعية إلى هذا الوضع البائس، وبسبب استمرارها في مناورات الاستحواذ على السلطة وعدم اكتراثها بما وصل إليه حال اللبنانيين.
أدى هذا إلى انفجارات اجتماعية ظهرت في شكل مظاهرات شعبية عمت أرجاء البلاد وشارك فيها الناس كمواطنين تحت علم لبنان وليس في ظل أي راية طائفية أو مذهبية. وظهرت أيضاً في خروج مظاهرات أو قطع للطرق في مناطق خاضعة لنفوذ حزب الله بما في ذلك الضاحية الجنوبية في بيروت ومدينة بعلبك وغيرها من مناطق نفوذ الحزب في سابقة غير معهودة. مما يعني تراجع نفوذ الحزب وعدم سيطرته على الموالين له.
وما زالت الأزمة اللبنانية مستمرة.