سياسة

جدليات الديني والاجتماعي


تُشبه العلاقةُ التي انتظمت بين السّياسيّ والدينيّ، في تاريخ الإسلام، العلاقةَ التي قامت فيه بين السّياسيّ والاجتماعيّ من وجهٍ، لكنّها تختلف عنها من وجْهٍ ثانٍ بعضًا من الاختلاف.

لا يمكن فَهْمُ وجهيْ التّشابُه والاختلاف (بين العلاقتين) إلاّ متى أدركنا نظام اشتغال السّياسيّ، في التّاريخ الإسلاميّ، والتّبدّيات المختلفة التي تتبدّى فيها فعاليّتُه، علمًا أنّها تبدّيات متغيّرة وتتحكّم فيها عوامل عدّة. لِنُطالعْ، ابتداءً، وجه التّشابُه بين العلاقتين.

في اجتماعٍ يمثّل فيه الدّين عاملاً رئيسًا في التّكوين والهندسة الاجتماعيّيْن، وتميل فيه السّياسةُ إلى خَلْع المشروعيّةِ على نفسها بالدّين – مثل المجتمع الإسلاميّ – كثيرًا ما يميل الفعل السّياسيّ إلى أن يُفصح عن نفسه في صورةٍ دينيّة، فيبدو الموقف السّياسيّ، حينها، وكأنّه تعليمٌ (=من التّعاليم) دينيّ أو حكمٌ دينيّ من فرط حضور المفردات الدّينيّة فيه.

ولقد كان الكثير ممّا عُبِّر عنه من مواقف كلاميّة أو فقهيّة، في تاريخ الإسلام، جزءًا من التّراث السّياسيّ: من الأقوال والأفعال والمواقف؛ وهذه الأخيرة لا تستبين، على الحقيقة، إلاّ متى نُزِعت عنها القشْرةُ الدّينيّة التي تُغلِّفها.

والتّداخُل والتَّخلُّل هذان (بين السّياسيّ والدّينيّ) سمةٌ عامّة لكلّ المجتمعات القديمة التي لم تشهد على تكوُّن السّياسيّ كمجالٍ اجتماعيّ مستقلّ، وليست خاصّةً بتاريخ الإسلام الكلاسيكيّ من دون سواه.

ولكنّ مثل هذا التّداخُل نعثر عليه، في المجال التّاريخيّ الإسلاميّ نفسِه، في العلاقة بين السّياسيّ والاجتماعيّ (العصبويّ القَبَليّ). غير أنّه بينما يَميل السّياسيّ إلى التّبدّي في شكْلٍ دينيّ على نحوٍ تتمظهر فيه الصّراعات السّياسيّة في صورة نزاعات دينيّة وانشقاقاتٍ وتكفيرٍ متبادَل، تتّخذ العلاقةُ بين الاجتماعيِّ والسّياسيِّ شكلاً آخر معاكسًا؛ هو الذي يعبّر فيه السّياسيّ عن التّناقضات الاجتماعيّة فيترجمها في صُوَرٍ مختلفة من الصّراعات السّياسيّة. وتبدو العلاقةُ هذه طبيعيّة وموضوعيّة في كلِّ مجتمعٍ وفي كلّ صراعٍ سياسيّ فيه لولا أنّ السّياسة، في الحالة الإسلاميّة، تلْبس لها لُبوسًا دينيًا فيختلط فيها، بالتّالي، السّياسيّ بالدينيّ بالاجتماعيّ ليتعسّر معه، أحيانًا، وضْعُ المائزِ بينها.

الخلْطُ عينُه حصل بين الاجتماعيِّ والدّينيّ؛ فكان الكثيرُ من معطيات الصّراع الاجتماعيّ (=صراع العصبيّات القَبَليّة والمناطقيّة) يُفصِح عن نفسه في شكل نزاعات دينيّة بين الفرق والمذاهب.

بل إنّ كثيرًا من ظواهر التَّمذْهب لفرقةٍ أو مقالةٍ أو رأيٍ إنّما كان لأنّ قاعَهُ عصبويّ وقاعدتَهُ أهلُ صُقْعٍ من الأطقاع ومنطقة من المناطق وقبيلة من القبائل. ولكنّ هذا قُرِئ في نطاقٍ فكريٍّ صِرْف وجُرِّد من ذلك الواعز العصبويّ الذي أسَّسه وحرَّكه وقاد إليه، مثله في ذلك مثل حوادثَ لا حصْر لها من الخلاف في الدّين منبعُها الأساس اجتماعيّاتُ الإسلام.

واليوم، مع تطوّر مناهج الدّراسات الإسلاميّة، ما عاد في المُكْنِ قراءةُ الكثير من حوادث تاريخ الإسلام، في لحظته الابتدائيّة كما في الامتداد، من غير الانتباه إلى أدوار الاجتماعيِّ – العصبويِّ فيها.

ولقد كان العلاّمة عبد الرّحمن ابن خلدون أبْكرَ من انتبه إلى ذلك وهو يقرأ تاريخ الإسلام باحثًا عن القوانين الحاكمة لتطوُّره، فكان أنِ انتهى به تمحيصًه لحوادث ذلك التّاريخ إلى أن يكتشف في العصبيّة والاعتصاب لها مبدأَ التّطوّر وديناميَّتَهُ الدّافعة وقانونَه النّأظم.

وما من شكٍّ في أنّ الانتباهَ العلميّ المتزايد لمكانة الاجتماعيِّ في التّاريخ الإسلاميّ أَطْلَعَنا، وما بَرِح  يُطْلِعُنا على فاعليّاتٍ خفيّةٍ منه لم يكن ينصرف التّحليل إلى جَلاَئها حين كان مشدودًا إلى فرضيّة حاكميةِ الدينيِّ للاجتماع الإسلاميّ. وهكذا أصبح مشروعًا – ومألوفًا في الوقتِ عينِه – مقاربة تاريخ الإسلام من زاوية أنتروپولوجيّة سياسيّة تُعيد حوادثَه السّياسيّة والدّينيّة إلى سياقاتها الاجتماعيّة التي في حِضنها تنشّأتْ وتطوّرتْ، بل وتَبَرَّرت.

ولكنّ هذه المقاربة الجديدة الغنيّة، وعلى غناها وفعاليّتها، لا تكفي وحدها لجلاءِ صورة ذلك التّاريخ إنْ لم تقترن بتحليلٍ بنيويّ لعلاقات التَّمَفْصُل بين الدّينيّ والسّياسيّ والاجتماعيِّ في تاريخ الإسلام، وبيان الكيفيّات التي كان يقع بها ذلك التّمفصل ويتّخذ له صُورًا مختلفة تبعًا لتغيُّر علاقات القوى بين حدوده في كلّ مرحلةٍ من التّاريخ.

ومن النّافل القول إنّ بيان كيفيّاته تلك يحتاج إلى الخروج، قليلاً، من النّطاق الضّيّق للتحليل البنيويّ إلى نطاقٍ أوسع من التّحليل التّاريخيّ المتحرِّك؛ لأنّ أدوات هذا التّحليل وحدّها تحدّدُ كيف يتولّدُ هذا الشّكل أو ذاك من التّمفصُل، و مِمّ يتولّدُ من عواملَ وأسبابٍ موضوعيّة.

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى