سياسة

ثقافة التخوين والتكفير


ليس هناك اتهامات أكثر قوة من التحريض على تكفير شخص ما أو تخوينه. فهي تهم تبيح الاعتداء على صاحب التهمة وحتى قتله. لذلك فنحن أمام تهمتين مدججتين بالعنف الرمزي والمادي معاً.

طبعاً هذه القوة التحريضية، التي تقوم عليها التهمتان المشار إليهما، هي نتاج مستندات كل تهمة، أي أن قوة التهمة من قوة مستندها والحقل الذي تنتمي إليه إحالة ومدلولاً ومعنى.

فالتكفير يحيل مباشرة على الديني والمقدس. والتخوين في علاقة بالوطن والوطنية نفسها في المكيال العربي والإسلامي من الإيمان أي من المقدس.

هكذا نفهم حالة الهلع الشديدة التي تنتج عند توجيه إحدى هاتين التهمتين إلى شخص ما، وذلك لأن توجيههما يمثل في حد ذاته ترخيصاً رمزياً لاستباحته وتعنيفه.

لقد اخترنا تناول هاتين التهمتين دون غيرهما من التهم ذات الرواج الاجتماعي والإعلامي اليوم في مجتمعاتنا لأنهما صارتا من التهم التي تميز المجتمعات العربية والإسلامية عن غيرها من المجتمعات الراهنة. تقريباً كل المجتمعات عرفت هذه الثقافة وهيمنت هاتان التهمتان على نقاشها العمومي زمناً طويلاً وقاسياً. ولكن هناك مجتمعات كثيرة تمكنت من حل مشكلة تهمة التكفير وبات الحديث عن التخوين لا يكاد يذكر، وذلك لأن الثقافة في هذه المجتمعات تغيرت وتعرضت إلى عملية جراحية عميقة وتم استبدال المرجعيات والمستندات ناهيك أنه تم تحييد الحقول المولدة للعنف.

لم تتخلص مجتمعاتنا بعد من أذى هاتين التهمتين ولم يتسنَ لها أن تعرف حراكاً مهماً في مستوى التغيير القيمي الذي بات ضرورياً، بل إن اللجوء إليهما بات أكثر تواتراً في الخطاب السياسي والإعلامي دون أن نحسب الجماعات المتشددة التي تصنف الناس تنظيماً راديكالياً على أساس الإيمان أو الكفر.

إزاء هذا الواقع الثقافي العام في مجتمعاتنا، وتحديداً في ظل الاستثمار السياسي والديني لتهمتي التكفير والتخوين، يمكننا أن نتوقف عند بعض الاستنتاجات المقلقة والمؤلمة التي تستوجب على المدى القصير انتباهاً ومعالجة.

لقد باتت مجتمعاتنا تمثل نشازاً على مستوى العالم. فكثرة اللجوء في تصفية الحسابات إلى هاتين التهمتين دليل هيمنة التوتر على العلاقات الاجتماعية بين النخب وغيرها في مجتمعاتنا. وهو توتر لا يتغذى من تباين اقتصادي يمكن تجاوزه بمراجعة كيفية توزيع الثروة في المجتمع، بل إنه توتر ينتعش من الاختلافات في التفسير والتأويل وفي مقاربة الأسئلة الأنثروبولوجية الثقافية. أي أن الآيديولوجيا حاضرة بقوة في النقاشات العمومية بالفضاءات العربية الإسلامية.

والظاهر أن الخاص وحتى الحميمي لا يزالان شأناً من شؤون الفضاء العمومي الذي لم يستطع بحكم استمرارية إقحام الشخصي في العمومي فضاء غير مُعقلن كما يجب أن يكون الفضاء العمومي.

من جهة أخرى، فإن استعمال هذه التهم دليل ضعف تجذير قيم المواطنة في مجتمعاتنا ومظهر انفصام ثقافي وتردد وعدم الحسم قيمياً، بما يضمن التعايش والحريّات الفردية والشخصية وما يحفظ مقومات الهوية من التوظيف والمناورات. لذلك فإن المجتمعات المتقدمة حسمت أمرها فغابت عن نقاشاتها وخلافاتها مثل هذه التهم التي لم تعد مقبولة في زمن الدفاع عن قيم المواطنة التي تنتظم وفق الحقوق والقوانين لا وفق الانتماءات الدينية والمذهبية والجنسية.

فالتكفير والتخوين سلاحان يفتكان بأي مجتمع لا يحمي نفسه من هاتين القنبلتين وتخليص الدين وسماحته من تأويلات تراكمت مع الوقت ولا تخدم إلا مشاريع الظلامية.

طبعاً التكفير أشد بأساً من التخوين، ولكن ما يجمع بينهما أن التخوين يحاول أن يلبس لباس التكفير. ولعل ما يؤكد ما ذهبنا إليه هو أنه قبل ظهور الإسلام السياسي وجماعات «السلفية الجهادية» لم تكن تهمة التكفير رائجة في الخطاب العربي، إذ يتم استخدامها للتخويف من جهة ولاستباحة الدم من جهة ثانية، إضافة إلى أن التكفير هو إخراج من الملة وأقصى ما يمكن أن يتهم به مسلم لما تثيره هذه التهمة من خوف ومصير مفتوح على المجهول.

أيضاً التناحر الآيديولوجي بين الأحزاب السياسية المختلفة المرجعيات في مجتمعاتنا يقوم على التخوين الذي عادة ما يقصد به خيانة الوطن. كما يؤدي معنى خيانة الأمة في سياق الصراع العربي الإسرائيلي مسألة التطبيع بوصفها قضية جعلت خطاب التخوين يزدهر ولا تزال تمارس نفس السطوة الرمزية رغم الاختراقات التي قام بها بعض المثقفين وواجهوا حملات تخوين وتشويه ومضايقات هائلة.

وعلى المستوى السياسي وتحديداً في العلاقات بين الأحزاب فإن خطاب التخوين حاضر أيضاً، فنرى من يتبنى برنامجاً يقوم على الاقتراض والتعامل مع البنوك الدولية يتهم بالخيانة وأنه يعرض الوطن للبيع، ومن يتعامل اقتصادياً أو يتبادل ثروات طبيعية مع الكيان الإسرائيلي خائن للقضية الفلسطينية والأحزاب ذات العلاقات مع دول أخرى تعتبر ذات ولاء لغير الوطن ومن ثم فهي خائنة.

وكما نلاحظ، فإن القضية الفلسطينية بشكل خاص كانت أكثر المستندات قوة في توجيه تهمة الخيانة وقد وصل الأمر إلى أن مجرد حضور مهرجان شعر فيه شعراء إسرائيليون يسمى تطبيعاً، ومن ثم خيانة، وهناك من يعتبرها خيانة عظمى.

إن ثقافة التخوين والتكفير لا تثير إلا الخوف والرعب وتمنع أي حوار وتسوّغ اللجوء للعنف بأشكاله المختلفة، لذلك فإننا نحتاج إلى مراجعة هذه الثقافة من دون أن تكون هذه الدعوة في حد ذاتها سبباً للتخوين والتكفير.

نقلا عن الشرق الأوسط

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى