حين فاز قيس سعيّد بمنصب الرئيس في الانتخابية الرئاسية بتونس عام 2019، دعا أحد أهم الفاعلين في حملته الانتخابية، رضا شهاب، للذهاب نحو “جمهورية تونسية ثالثة”.
وقتها أثارت دعوته هذه جدلا واسعا في أوساط النخب التونسية، بين من رأى أنها “مجرد اجتهاد شخصي من “شهاب”، وبين من رأى أنها تعبر في العمق عن توجه لدى الرئيس” سعيد”، الذي كان يشغل قبل توليه الرئاسة منصب رئيس الجمعية التونسية للقانون الدستوري منذ عام 1995.
الرئيس قيس سعيّد، القادم من خلفية دستورية، بعيدا عن الحياة الحزبية والأيديولوجية، وجد أيامه الرئاسية الأولى بين حكم حركة النهضة الإخوانية، وقوى أخرى مختلفة ترفع راية الديمقراطية، سرعان ما وجد صعوبة السير وفق دستور عام 2014، لذا بدأ يقول مرارا إن الدستور المذكور “يعج بالأقفال، وغير ملائم لبلاده”، وهو ما أطلق العنان للحديث عن أهمية العبور إلى “الجمهورية الثالثة”، بعد الجمهورية الأولى التي تأسست وفق دستور عام 1958، والثانية وفق دستور عام 2014، مع ملاحظة أن الرئيس قيس سعيّد لا يحبذ النظام البرلماني، ويفضل عليه نظاما رئاسيا وفق دستور واضح ومحدد الصلاحيات والسلطات، كما كان خلال أيام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.
وانطلاقا من هذا التوجه سرعان ما اتخذ الرئيس قيس سعيد حزمة قرارات حاسمة في الخامس والعشرين من يوليو، حيث أعلن حل حكومة هشام المشيشي، ومنع راشد الغنوشي -زعيم حركة “النهضة” ذراع الإخوان في تونس- وعشرات النواب من دخول البرلمان بعد تجميد أعماله، ومن ثم اتخذ سلسلة قرارات وخطوات تصحيحية ليس آخرها حل البرلمان، راسما من خلال كل ما سبق مسار العبور إلى الجمهورية التونسية الثالثة، عندما أعلن في الأول من مايو الجاري عن تأسيس لجنة هدفها الإعداد لتأسيس جمهورية جديدة، على أن يعرض ما ستتوصل إليه اللجنة إلى استفتاء شعبي في الخامس والعشرين من يوليو المقبل.
قد لا تكون طريق الرئيس قيس سعيّد إلى الجمهورية الجديدة مفروشة بالورد، لكن ثمة عوامل ومتغيرات قد تساعده على تحقيق هدفه هذا، لعل من أهم هذه العوامل:
1- مصداقية الرئيس قيس سعيد في تطبيق خطواته وتطلعاته، ولعل من يدقق في مسيرته منذ وصوله إلى الرئاسة سيجد مدى التصميم الكبير لديه لتحقيق ما يصبو إليه، وبسبب كل ذلك اكتسب شعبية كبيرة في الشارع التونسي، إلى درجة أن استطلاعات رأي تشير إلى أن نسبة المؤيدين له بلغت 84 بالمائة من التونسيين.
2- الحاجة الموضوعية إلى الانتقال إلى دستور جديد، يضع نهاية لنظام المحاصصة الحزبية التي وضعها دستور عام 2014، حيث شكل هذا النظام جسرا للتستر على فساد حكم حركة “النهضة”، دون تحمل المسؤولية أو وجود آليات حقيقية للمحاسبة، خاصة أن الكثير من الوقائع كشفت مدى تورط حكم “النهضة” في دعم الإرهاب، والعمل لصالح أجندة خارجية، حتى داخل البرلمان التونسي.
3- فتح الباب أمام جميع القوى الوطنية التونسية للمشاركة في الحكم ومؤسساته عبر انتخابات ديمقراطية، بما يعني وضع نهاية فعلية لمحاولات حركة “النهضة” الإخوانية للعودة إلى الحكم، سواء من خلال تحريض الشارع التونسي ضد حكم الرئيس قيس سعيّد، أو استدعاء الخارج والاستقواء به بزعم “المظلومية والتعرض للقمع”، مع أنها، أي حركة النهضة، تمارس أنشطتها كافة في الداخل التونسي، ولعل هذا ما يدفع بالرئيس قيس سعيّد إلى مزيد من الحزم مع محاولات “النهضة” للعودة، من خلال المضي حتى النهاية في “لاءاته الثلاثة”، لا حوار، لا شرعية، لا صلح مع من خرّبوا البلاد.
من الواضح أن الرئيس قيس سعيّد حسم مصير الجمهورية الثانية في تونس، وينصب كل تركيزه وجهده على صوغ ملامح الجمهورية الجديدة عبر دستور جديد لم تتضح ملامحه النهائية، وإن كانت الوقائع تشير إلى أنه يقوم على حوار وطني بإشراف الرئيس قيس سعيد نفسه، من خلال مراجعة النظام السياسي، ووضع قانون انتخابي يلائم خصوصية المجتمع التونسي، وتنظيم انتخابات عامة، في حركة سياسية وقانونية تحفظ التعددية في الجمهورية الثالثة، وتعيد الزخم لنظام مؤسسة الرئاسة كما كانت الحال في زمن الراحل “بورقيبة”.