سياسة

تونس.. مخاض الديمقراطية وألغام الإخوان


نجحت تونس خلال العقد الأخير من الزمن في بلورة حالة ديمقراطية ناشئة مشهود بها ولها على صعيد العمل الحزبي والسياسي الداخلي، وتجنبت لفترة لابأس بها كثيراً من الاهتزازات الاجتماعية والمنعطفات القاسية خلال سعيها لترسيخ نموذج ديمقراطي وطني للحكم، تنعم في ظله البلاد والعباد بالاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي ويتيح الفرصة لتسريع عجلة التنمية في البلاد.

ومردُّ ذلك هو سعي القوى والأحزاب التونسية لبلورة نقاط التقاء تصب في مصلحة الوطن عامة وتتجاوز التناقضات الحزبية من جهة، وتغلق منافذ التأثير الخارجي على منهج عمل الأحزاب وقياداتها من جهة أخرى.

لكن هذا الإطار العام للمشهد السياسي التونسي بدأت تواجهه تحدياتٌ كبيرة وربما صعبة منذ انكشاف أوراق وأجندات حركة النهضة الإخوانية وتحديداً ارتباطاتها الخارجية، وتبنّيها أجندات ومشاريع غريبة عن ثقافة المجتمع التونسي ومتعارضة في أولوياتها وأبجدياتها مع الطموحات العامة للشعب التونسي وتياراته الحزبية والسياسية.

وفي ظل تداخل التأثير الخارجي مع هوس السلطة الذي يدغدغ رؤوس زعامات التنظيمات الإخوانية عموما وحركة النهضة واحدة منهم، بدا جلياً حجم التأثير السلبي على الاستقرار الداخلي في تونس، شعبياً ومؤسساتياً، ولم يعد الأمر مقتصراً على ديناميكية العمل الديمقراطي وسجالاته وتنوعه في السياقات الحزبية بل انتقل إلى ساحة المؤسسات التشريعية والتنفيذية.

ووصل ذلك في بعض المنعرجات إلى تعطيل العمل البرلماني والحكومي على خلفية انتهاج رئيس حركة النهضة الإخوانية راشد الغنوشي، وهو الرئيس الحالي لمجلس نواب الشعب التونسي، سلوكاً فردياً تماشياً مع انتمائه الحزبي الضيق، غير آبه بقواعد وأصول وأخلاقيات المسؤولية الوطنية العامة الملقاة على موقعه الاعتباري كرئيس للمؤسسة البرلمانية التي يتمثل فيها الشعب من خلال نواب عنه، وغير مكترث لمواقف وآراء بقية الكتل الحزبية البرلمانية الشريكة في الحكم.

وبالتالي قدم الغنوشي مصالح حركته وحزبه على المصالح الوطنية العليا، ووفقا لما كشفه عدد من أعضاء مجلس نواب الشعب، خلال جلسة استجواب الغنوشي، فإن الأخير لم يكتف بتجاوز صلاحياته الدستورية والوطنية حين التقى أردوغان في أنقرة وحين تهاتف مع السراج مهنئا ومباركا؛ بل أخفى حقيقة دوافعه ومهمته، ووصل الأمر بأحد النواب إلى القول موجهاً كلامه للغنوشي في الجلسة : “لقد كذبت علينا في كلا الأمرين”.

ارتهان حركة النهضة وزعيمها للخارج، وتماهيه مع المشروع الأردوغاني بشكل مفضوح بدأ ينعكس سلباً ليس على المسار الديمقراطي الذي اختطته الأحزاب الوطنية التونسية فحسب، ولا على سياقات العمل الحكومي والبرلماني فقط.

بل على مجمل المشهد العام في البلاد بعد ارتفاع الأصوات المنددة بنهج حركة النهضة وزعيمها ورفض سياسات إلحاق البلاد بمحاور خارجية تمس استقلاليتها وسيادتها، وتضعف إرادتها الوطنية وتتناقض في كثير من الاعتبارات مع القيم الحضارية للمجتمع التونسي.

ويبدو أن أول المتأثرين جراء هذا النهج هو المسار الديمقراطي والتحول المنشود من قبل القوى السياسية والحزبية والشعبية التونسية التي سعت وعملت على مدار عقود لتحقيق تطلعاتها بدولة وطنية تقوم على العدالة والمساواة وتداول السلطة وصون السيادة والاستقلال بعيداً عن التبعية للخارج.

محدّدات الواقع الجديد في تونس ليست سياسيةً صرفة، وهذا ما لم تدركه حركة النهضة الإخوانية التي توهمت، كما يبدو، أن كتلتها البرلمانية ستمنحها سلطات مطلقة لإدارة شؤون البلاد والعباد داخلياً وخارجياً وفقاً لأيديولوجيتها وأجندتها، ذلك أن متطلبات الواقع اقتصادية واجتماعية بالدرجة الأولى ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً باحتياجات المواطن بدءاً بأولويات الحياة اليومية البسيطة وصولاً إلى حقوقه الدستورية.

من الإشارات الدالة على حيوية المجتمع التونسي وتجذّر وعيه الوطني والسياسي؛ ما تجلى في وحدة الموقف بين السلطات الثلاث بنسبة كبيرة وبين القطاعات المجتمعية والتيارات الفكرية والعلمية المناهضة لمحاولات جر تونس إلى محاور معادية لطموحاتهم.

فبينما كانت أصوات أعداد من النواب تطالب باستقالة الغنوشي، أبدى الكثير من المسؤولين الحكوميين رفضهم المساس باستقلال بلادهم، في حين برزت مواقف من داخل تجمعات القوى النقابية والشعبية والفكرية منددة بمحاولات التيار الإخواني الاستئثار بالسلطة ورسم سياسة تونس الخارجية.

وربما كان الأهم خروج مظاهرات في جنوب شرق البلاد مطالبة بحل البرلمان، وقد تكون هذه المظاهرات شرارة أولية تنطلق بعدها حركة احتجاجية عامة تتوسع لتشمل البلاد برمتها إذا ما استمر نهج حركة النهضة بالعمل ضد رغبات وطموحات الناس وإذا ما حاولت الانقضاض على التجربة الديمقراطية الناشئة.

التجربة الديمقراطية في تونس أمام امتحان جدي، وإنقاذ هذه التجربة بيد الكتل البرلمانية المشكّلة لمجلس نواب الشعب، ويمكن لها أن تلتقي عند نقاط مشتركة تجمعها المسؤولية الوطنية وتبني عليها تفاهمات تحت هذا السقف وتنحّي جانبا الخلافات الايديولوجية والحزبية وغيرها، مستفيدة من المزاج العام المناهض لتجمع الإخوان في البرلمان ومستثمرة مواقف السلطتين الرئاسية والحكومية المتقاطعة معها إضافة إلى الحالة الشعبية المتنامية ضد حركة النهضة الإخوانية.

المخاض الذي تعيشه تونس حاليا لا يمكن عزله عن مؤثرات إقليمية وأحداث تعيشها بعض دول الجوار التونسي أو حتى دول أخرى في مجمل المنطقة.

لكن خصوصية التجربة التونسية على مدار عشر سنوات، وعراقة الثقافة المتنورة في المجتمع التونسي تجعله أكثر مرونة وقابلية لتثبيت نهج سياسي وطني بعيداً عن صراعات وأجندات الخارج أو أولئك المرتهنين للمشاريع الخارجية.

كما يشكل فرصة كبيرة للقوى الوطنية كي تتجاوز صراعاتها البينية وتتدارك الأخطاء السابقة وتحشد الرأي العام خلفها، لتصحيح مسار التجربة الديمقراطية التونسية وتعيده إلى سياقاته الوطنية وبذلك فقط يتهاوى المشروع الإخواني برموزه وخططه ومشاريعه.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى