توماس باراك يطرح مقاربة أميركية جديدة تجاه الشرق الأوسط
في مقابلة مطوّلة مع شبكة “ذو نايشن”، قدّم المبعوث الأميركي إلى سوريا، توماس باراك، تقييماً غير مسبوق لعمق الإخفاقات التي رافقت التدخل الأميركي في العراق والمنطقة خلال العقدين الماضيين، متحدثاً بلغة حادة تشي برغبة إدارة واشنطن الحالية في إعادة صياغة مقاربتها للشرق الأوسط وتجنب إعادة إنتاج أخطاء الماضي.
وشكلت زيارة باراك الأخيرة إلى بغداد على ما يبدو، خلفية مباشرة لهذا التقييم، الذي تجاوز حدود الملف السوري ليشمل العراق ولبنان وإيران، وصولاً إلى مستقبل العلاقات الإقليمية.
وتقدّم تصريحاته كما وردت في المقابلة الأخيرة، مؤشرا واضحاً على مراجعة جذرية للدور الأميركي في الشرق الأوسط وبالأخص في العراق، حيث تبنّى خطاباً غير مألوف لمسؤول أميركي حالي، إذ قدّم اعترافاً صريحاً بثقل الأخطاء التي ارتُكبت خلال العقدين الماضيين، فالتدخل الأميركي، بحسب تقييمه، لم يحقق أي مكاسب استراتيجية رغم إنفاق ثلاث تريليونات دولار وخوض حرب طويلة خلفت مئات آلاف الضحايا، وأنتجت واقعاً سياسيا وأمنيا هشا سمح بصعود نفوذ إيران وفصائلها المسلحة.
وهذا التوصيف لا يقتصر على نقد جزئي أو تقني، بل يعكس موقفاً أقرب إلى الإقرار بأن تجربة غزو العراق كانت نموذجاً لسياسة يجب عدم تكرارها، خصوصا بعد أن أفضت الصيغة الفيدرالية التي دفعت بها واشنطن إلى ما سمّاه باراك “تجزئة بنيوية” شبيهة بتجربة يوغسلافيا، وتسببت في تعميق الانقسامات بدلاً من إدارتها.

وبدا المبعوث الأميركي مقتنعا بأن النفوذ الإيراني في العراق لم يعد نتيجة ظرفية، بل تحوّل إلى جزء من البنية السياسية، حيث تلعب الميليشيات المرتبطة بطهران دورا مقررا داخل البرلمان وفي تشكيل الحكومات. وقدّم باراك مثالا بحكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، واصفا إياه بأنه “شخص جيد” لكنه محاصر بتوازنات سياسية تجعل قدرته على الاستقلال محدودة، بينما يعكس هذا التشخيص إدراكا أميركيا بأن الأدوات التقليدية للنفوذ الأميركي لم تعد فعالة وبأن بغداد باتت ساحة صراع إقليمي مفتوح تتعامل فيها طهران بواقعية وقوة أكبر مما تقابلها به واشنطن.
ومن بين الرسائل الأوضح التي حملتها تصريحات باراك هو إعلان انتهاء مرحلة الانخراط العسكري الأميركي الواسع في الشرق الأوسط، فقد أكد أن واشنطن لن ترسل قوات برية جديدة ولن تفتح خطوط إنفاق مالية ضخمة، وأن حضورها سيقتصر على دور دبلوماسي وأمني مركّز، مرتبط بملف مكافحة الإرهاب بالدرجة الأولى، وبسفارة ضخمة في بغداد وقنصلية نشطة في أربيل. ومن خلال هذا الإعلان، يبدو أن الإدارة الأميركية تسعى إلى نقل العبء الأمني والسياسي إلى دول المنطقة نفسها، مع الاحتفاظ بدور مراقب وضامن عند الضرورة.
وفي ما يتعلق بإيران، أبدى باراك استعداداً مشروطاً للحوار، لكنه شدد على رفض واشنطن لأي مفاوضات شكلية تطيل أمد النزاعات بالوكالة. وأشار إلى أن مشكلة التفاهم مع طهران هي في اختلاف طبيعة التخطيط: إيران تفكر بعقود طويلة، بينما تتحرك الولايات المتحدة ضمن دورات انتخابية قصيرة، وهو ما يجعل أي تسوية معرضة للاهتزاز. كما حذّر من مسار مفاوضات قد يتحول إلى فخ يمنح إيران مزيداً من الوقت لتعزيز نفوذها عبر حلفائها في المنطقة.
أما في لبنان، فقد قدّم باراك تقييماً حاداً للأزمة، معتبراً البلد “دولة فاشلة” اقتصاديا وماليا، لكنه رأى في الوقت نفسه فرصة لتجنب حرب أهلية جديدة، نظرا إلى رغبة معظم القوى السياسية في الامتناع عن الانزلاق إلى مواجهة شاملة. وأعاد التأكيد على التعقيد الفريد لملف حزب الله، فهو بالنسبة للولايات المتحدة منظمة إرهابية، لكنه في الداخل جزء من النظام السياسي وعنصر تمثيل رئيسي للطائفة الشيعية. ولذلك يرى باراك أن الحل لا يمكن أن يمر عبر نزع السلاح بالقوة بل من خلال اتفاق يحد من استخدامه ويعيد ضبط العلاقة بين الحزب وطهران في إطار تسوية أوسع تشمل الحدود والأمن في الجنوب.
وكشف في هذا السياق عن توجّه أميركي لدفع لبنان نحو حوار مباشر مع إسرائيل، باعتبار أن التسويات المستدامة تتطلب اعترافاً متبادلاً ومساراً واضحاً، وليس الاكتفاء بآليات غير مباشرة.
وفي قراءته للوضع السوري، استخدم باراك نبرة مختلفة، إذ تحدث بإيجابية عن السلطة الجديدة هناك ورأى أنها أنهت “خمسين عاما من الفظائع” وتسعى لاعتماد نهج تعاوني بعد انضمامها للتحالف الدولي ضد تنظيم داعش، مشيرا إلى أن الحل، من وجهة نظره، يحتاج إلى اتفاق أمني وحدودي مع إسرائيل قد يفتح لاحقاً الباب أمام تسوية أوسع.
وبدا لافتا أن باراك اختتم حديثه بتقويم نقدي للسياسة الأميركية الأوسع، مؤكداً فشل معظم محاولات تغيير الأنظمة التي رعتها الولايات المتحدة منذ منتصف القرن الماضي، معتبرا أن إدارة الرئيس دونالد ترمب تتحرك وفق مقاربة مختلفة، لا تعتمد على تغيير الأنظمة من الخارج، بل على تشجيع حلول إقليمية تصوغها دول المنطقة نفسها، مع بقاء واشنطن لاعباً مساعدا لا قائدا مباشرا.
وتكشف تصريحات باراك عن رغبة أميركية في إعادة صياغة دورها في الشرق الأوسط والانتقال من التدخل المباشر إلى إدارة النفوذ من مسافة محسوبة، مع الاعتراف الضمني بأن موازين القوى الإقليمية لم تعد كما كانت وأن واشنطن مضطرة للتعامل مع واقع سياسي جديد يتطلب براغماتية أكبر وأدوات أقل تكلفة.







