كلانية الحُكم على جماعات الإسلام السياسي، متأت من ثبات الفشل في جميع تجاربها، على ما بينها من اختلافات.

فالإسلام السياسي الذي قدمه حزب العدالة والتنمية في تركيا مثلاً، كنموذج لإسلام سياسي “مدني”، قادر على القبول والتماهي مع نظام دولة علمانية، يقبل بما هو مؤسس على القيم والمؤسسات الديمقراطية، وفوق ذلك حزب سياسي حداثوي، يسعى للانخراط في المنظومة الأوربية.

بعد مرور قُرابة عقدين من حُكم هذا الحزب، وتمكنه من السيطرة شبه المطلقة على مختلف مراكز القوة في البلاد، أثبت بأن جميع ادعاءات تلك لم تكن إلا تقية سياسية، تقصد من ورائها التعايش المؤقت مع المؤسسة العسكرية والقضائية والبرلمانية. وما أن أضعفها، حتى أنقلب ليغدو حزباً شعبوياً، يتطلع لزرع شبكة من الأذرع السياسية والأمنية في دول الجوار والمحيط الإقليمي، ليتحول إلى غول سياسي وعسكري، صورة مكبرة عن سلوكيات وتطلعات أي جماعية ميليشيوية. مع الكثير من النكوص في مستويات الاقتصاد والشفافية وانهيار الطبقة الوسطى وتدني احترام الحريات وحقوق الإنسان…الخ.

تجربة الإسلام السياسي الإيرانية، وإن كانت تُقدم نفسها كنظير طائفي وسياسي لما يجري في تركيا، إلا أنها في كل تفصيل من تجربتها، لم تنتج إلا ما يطابق الحالة التركية تماماً. دولة عسكرية شمولية، كاتمة لأفوه ملايين المواطنين الإيرانيين، تسيس الدين وتستخدمه كآلة دعائية لشرعية حُكمها فحسب. وطبعاً مع تحقيق لنفس النتائج الحتمية التي في التجربة التركية، من حيث أن التجربتين في المحصلة أوصلتا مجتمعاتهما ودولتهما إلى حائط مسدود.

في كل تجارب أحزاب وقوى وجماعات الإسلام السياسي التي ما دون سلطة الدولة، تلك التي لم تتمكن حتى الآن من الاستيلاء سُلطة حُكم البلدان، جماعات مثل الإخوان المسلمين وحزب التحرير في مختلف البلدان، نزولاً لقوى الإسلام السياسي العنيف والأكثر راديكالية، ثمة أيضاً ذلك المزيج المريع من تهديد السلام الاجتماعي وتعايش الطبقات وشعور المختلفين سياسياً ودينياً وقومياً بالأمان العام، وفوق ذلك فأنها قوة ممانعة دائمة لتشكل معارضات وطنية مدنية وحداثوية.

هذه الحقائق التي بقيت غامضة لعقود كثيرة، تحت ضغط استخدام واستغلال قوى الإسلام السياسي للعاطفة الدينية، من خلال الخلط المتعمد بين العقائد والقيم والمُثل الدينية العُليا، وبين تنظيماتها السياسية ومراميها للوصول والهيمنة على الحُكم.

 لكنها راهناً، وتحت ضغط الأفعال والأعمال والنتائج التي وصلت إليها مختلف تجاربها، صارت واضحة تماماً.

وصل الإسلام السياسي إلى هذه النتيجة تحت ضغط ثلاثة عوامل كان يستبطنها دوماً، لكنها صارت واضحة بالتقادم.

فهذا الإسلام السياسي منذ التأسيس كان يخلط بين مجالين مختلفين تماماً. الدين باعتباره مجالاً روحياً وأخلاقياً وعقائدياً، والسياسة بكونها فضاء تصارعياً، بين طيف هائل من التيارات والجماعات والتنظيمات المجتمعية، التي تحاول كل واحدة منها فرض ايديولوجيتها وبرامجها وسلوكياتها على باقي التشكيلات المجتمعية والسياسية، ولو مؤقتاً.

كان يمكن إخفاء ذلك الخلط مطولاً، لكن مع تطور البُنى المجتمعية والاقتصادية والثقافية صار صعباً للغاية فعل ذلك، وغدا واضحاً أن الإسلام السياسي لا يسعى لتعميق “إيمان” المواطنين، بل فقط لاستغلال الدين في سبيل مزيد من السلطة والصراع الذي تمارس ضد باقي التيارات السلطوية.

إلى جانب ذلك، فإن الإسلام السياسي، وعلى عكس باقي كل التيارات السياسية الأخرى، لم يكن يحمل في طياته برنامجاً سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً يملك حظوظاً ما للنجاح، لأنه لم يكن يملك برنامجاً في تلك الاتجاهات أساساً. بل كان مجرد خطابية تحريضية، يريد عبر تلك الخطابية تجاوز تلك البرامج والخطط والاعمال الاقتصادية والمجتمعية الواجبة على أي حزب سياسي.

فالإسلاميون كانوا يريدون من المجتمعات أن ترضى بهم وبكل أفعالهم، أياً كانت، فقط لأنهم يُظهرون سلوكيات وخطابات إسلامية ظاهرة، وفقط كذلك. وهو أمر صار مستحيلاً، بتضخم حاجات الناس وتنوعها اللامتناهي، التي لم تعد بعض الألاعيب اللفظية تستطيع أن تُغطيها.

أخيراً، فأن الإسلام السياسي كان على الدوام قوة عنف قهرية، وعلى جميع المستويات.

فالإسلاميون الذين وصلوا سُدة الحُكم تطلعوا تالياً للاستيلاء على الدولة والمجتمع، أي للهيمنة المطلقة، دون أية حساسية تجاه وجوب استقلالية مؤسسات الدولة، أو التنوع الحتمي داخل المجتمع. أما الإسلاميون الذين لم يصلوا لسُدة الحُكم فلم يخلقوا أية مساحة مشتركة مع قوى المعارضة الديمقراطية والمدنية، ولم يرضوا حتى بالقبول بالقيم العُليا التي تتطلع إليها المجتمعات.

هذه القهرية أنتجت وأفرزت عنفاً متطايراً، في كل منطقة وتجربة. عنف لم تستطع أن تتحمله أية مجتمعات، ولا حتى القوى الدولية المهتمة بمنطقتنا.

نقلا عن سكاي نيوز عربية