سياسة

تركيا ونهاية التَسَكُّع الاستراتيجي


التسكع كلمة عربية فصيحة ذات دلالة عميقة، فهي تعني السير في الأرض بدون هدى ولا هدف.

وتعني التخبط في الظلام، وتعني التمادي في الضلال، وعدم مشاورة الحكماء، وفي شعر حسان بن ثابت لقوم زاروا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: “وَهَلْ يَسْتَوِي ضُلاَّلُ قَوْمٍ تَسكعُوا … عَمًى وَهُدَاةٌ يَهْتَدُونَ بِمُهْتَدِ؟”. وقد ظهر هذا المفهوم في اللغة الفرنسية في منتصف القرن التاسع عشر في كتاب للمؤلف “بول جافارني” عنوانه “المتسكع La Flaneur” صدر عام 1842، وكان هذا المفهوم يصف نمطا جديدا من سلوكيات رجال الطبقة العليا؛ الذين يهيمون على وجوههم ويتجولون في الطرقات بلا هدف ولا غاية، فقط لقتل الوقت، والتمظهر، واستعراض المنظر والأبهة.

وحيث إن هذا مفهوم التسكع الصحيح في اللغة، ومستخدم في الثقافة، وفي التحليل الأنثروبولوجي، فلا ضير إذن من استعارته للتوظيف في التحليل السياسي؛ إذا كان ذلك سوف يسهم في فهم الظواهر السياسية بصورة أكثر عمقاً، وتحليلها بصورة أكثر دقة، وأقرب إلى الحقيقة، وأكثر فائدة في التعامل معها بصورة تحقق المصالح الوطنية، وتواجه المخاطر والعدائيات.

وبعد متابعة مستمرة وعميقة للسلوك التركي في سوريا، وفي ليبيا، وفي السودان والصومال واليمن وشرق المتوسط، كان واضحاً أن هناك نمطاً غير معتاد في سلوك الدول التي تحكمها رؤية استراتيجية بعيدة المدى، واضحة المعالم. فالسلوك التركي أقرب للتسكع الاستراتيجي، أي نمط من التسكع الذي لا يحقق هدفاً ظاهراً، وإنما يتعلق باستراتيجيات خاصة خفية للرئيس التركي، أو للحزب الحاكم في تركيا، فالظاهر في السلوك التركي هو تسكع بلا هدف، ولا رؤية، والدليل على ذلك أنه لم يحقق أي هدف ولا مصلحة، وإنما قد تكون هناك أهداف خفية بعيدة عن مصالح الدولة التركية؛ تتعلق بمصير الرئيس التركي أو حزبه الحاكم.

ففي إدلب مثلا ظلت القوات التركية تتدفق إلى إدلب وشمال وغرب حلب، وشمال حماة بعشرات الآلاف، والمعدات العسكرية الثقيلة والمتوسطة بالآلاف، وتقيم نقاط مراقبة بالعشرات، بدون سند شرعي من قرارات الأمم المتحدة، أو موافقة الحكومة السورية، ثم بعد ذلك لا تفعل هذه القوات شيئا، ثم يتم تفكيكها، وإعادتها لتركيا، ثم بعد ذلك يتم استقدامها مرة أخرى، وهكذا.

الأمر نفسه حدث في ليبيا؛ حيث تدفق المرتزقة الموظفون من قِبل الحكومة التركية إلى ليبيا بالآلاف، وتدفقت المعدات العسكرية بصورة مكثفة، وفي النهاية لا شيء يحدث. أما شرق المتوسط فقصة أخرى؛ حيث تدور سفن التنقيب عن النفط الغاز في المياه الإقليمية لعدة دول منها قبرص وتركيا، وتصاحبها القوات البحرية التركية، ويتم وضع تاريخ لنهاية تسكعها في شرق المتوسط، ثم يتم تمديد المدة المقررة سابقا، وتعترض الدول الأوروبية، ويستمر أردوغان في التسكع، وفي النهاية ينسحب.

وقد يكون المبرر الوحيد لحالة التسكع التركي في الإقليم موجودا في عقل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ويتمثل في الحرص على انشغال الجيش التركي في مشكلات وأزمات مستمرة خارج حدود تركيا، حتى يستطيع أردوغان النوم آمنا من كابوس الانقلاب عليه، وإعدامه مثلما حدث مع عدنان مندريس رئيس الوزراء التركي في الفترة من 1950 إلى 1960، حين كان رئيس الوزراء هو القائد الفعلي للبلاد في النظام البرلماني قبل أن يغيره أردوغان. فقد انتهى حكم مندريس بانقلاب عسكري ثم إعدامه شنقا بعد ذلك. قد يكون أردوغان ضحية لعقدة عدنان مندريس، لذلك يحرص على استمرار عملية التسكع الاستراتيجي، والانتقال من دولة إلى أخرى دون أن يحقق أيا من أهدافه.

ولعل التطورات الأخيرة في الموقف التركي من مجمل قضايا المنطقة تؤكد أن كل ما قامت به تركيا هو نوع من التسكع، أي تحركات تائهة بلا رؤية سياسية، ولا وجهة محددة، وبلا هدف، هي أقرب للمقامرة منها للسلوك السياسي الرصين، فقد بدأت ترد الأخبار بأن الرئيس التركي بدأ التواصل مع الرئيس السوري بشار الأسد، وأنه يسعى للمصالحة مع مصر، ويحاول تحقيق نفس المصالحة مع السعودية والإمارات، ويتواصل مع ألمانيا للتوسط لدى الاتحاد الأوروبي لعودة المياه إلى مجاريها، ومحاولة تقليل المخاطر التي تحدق ببلاده إذا نفذت الدول الأوروبية تهديداتها، وفي الوقت نفسه يسعى للتصالح مع أرمينيا من خلال فتح طرق التجارة والحدود بين البلدين.

كل هذه التحولات السريعة والجذرية في علاقات تركيا مع جميع الدول التي كانت تناصبها العداء، وتهاجمها ليل نهار تثبت أن السلوك التركي السابق لم يكن نابعا من رؤية عميقة طويلة الأجل، ولم يكن يعبر عن سلوك دولة تحرص على أن تكون رصينة في تعاملها مع جيرانها وشركائها، وإنما يعبر عن حالة من التخبط والضلال والتيه، والتحرك بلا هدف ولا وجهة ولا رؤية، وهذه المعاني كلها يحتويها مفهوم التسكع، ويختصرها بصورة دقيقة ومعبرة عن الحمولة القيمية والأخلاقية السلبية الكامنة خلفها.

إن نهاية التسكع التركي في الإقليم ستكون كارثية على صورة تركيا الدولة، وسوف تؤثر بصورة جذرية على مصالحها، وعلى مستقبل العلاقات معها، وستقود إلى النهاية الحاسمة للحزب الحاكم في تركيا وحلفائه في أول انتخابات قادمة.

العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى