سياسة

تركيا وغزو شمال أفريقيا


هناك شيء عفنٌ حقاً يحدث في تركيا، كما قال شكسبير مرةً، وهو منهجٌ قائمٌ منذ عقودٍ وله أسماء ورموز وتيارات وأحزاب تقاربت وتحالفت، ثم تخاصمت وتباعدت بحسب المتغيرات والمعطيات، حتى صفت في النهاية على الرئيس أردوغان وحزبه.

أردوغان سعى جهده وبشتى السبل للوصول للقصر الرئاسي في أنقرة، بعدما صرف عليه ما يفوق المليار دولار قبل أن يسكنه بعدما عدّل الدستور وأقصى كل حلفائه من فتح الله غولن إلى أحمد داوود أوغلو وغيرهما العشرات من المنتسبين للتيارات الإسلامية، فضلاً عما صنعه بالدولة التركية من قبل، حيث حيّد الجيش حامي العلمانية وفتك بقياداته وأخضعه لتبعيته، وبعدما خسر اقتصادياً وساق تركيا للفشل شبه الكامل، بدأ يستخدم قوة الجيش في الغزو الخارجي لتصدير مشكلاته الداخلية.

مثل كل الأنظمة الباطشة والديكتاتورية، فإن أفضل الحلول للأزمات الداخلية المتراكمة هو تصديرها للخارج عبر طرقٍ شتى، منها اختلاق الحروب، واستنزاف الجيوش رغبةً في استدراك الخلل الداخلي، وهرباً من الحلول الداخلية الواقعية إلى الأحلام والأوهام التي قد تكون مهلكةً.

تبدو تركيا اليوم متشعبة الاهتمام ومشتتة التركيز، فهي عاجزة عن حل مشكلاتها الحقيقية على الأرض، ولا تريد الاعتراف بذلك، بل تختار استراتيجية الهرب إلى الأمام، فبدلاً من المواجهات المستمرة لعقودٍ مع حزب “العمال الكردستاني”، قرّرت اقتحام العراق وانتهاك سيادته بشكل عسكري مباشرٍ تحت ذريعة ملاحقة الحزب الكردي التركي، مع إصرارٍ مستمرٍ وثابت على عدم حل مشكلة المواطنين الأتراك من الكرد.

سعى أردوغان المنخرط في الأزمة الليبية منذ سنواتٍ دعماً لجماعة “الإخوان” والميليشيات الإرهابية إلى اختراق بلدان المغرب العربي، وتحديداً البلدان المجاوران لليبيا وهما تونس والجزائر، وفي تونس استطاع الوقوف على قاعدة صلبةٍ من جماعة “الإخوان” وحلفائها ممثلة في حركة “النهضة”، ومن معها، وبالتعاون الوثيق مع رئيس البرلمان “الإخواني” راشد الغنوشي، وهو التعاون المدعوم من دولة خليجية صغيرة، والذي أثار ولا زال يثير الكثير من اللغط لدى المواطنين التونسيين والقوى السياسية الوطنية في تونس.

الأمر في الجزائر بدا مختلفاً، بحيث لم يحصل أردوغان على مبتغاه، وبخاصة أن الجزائر قد عانت طويلاً جداً من جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة “الإخوان”، ولم تزل لديها ذكرياتٌ مريرةٌ حيةٌ اليوم عن عقد التسعينيات، وما تبعه من جرائم ارتكبها أولئك الإرهابيون لم تزل حاضرة في أذهان الجزائريين، ولم يشفوا منها بعد، وبالتالي كانت الاستجابة لأردوغان وأحلامه وأوهامه واهنةً وغير ذات بالٍ.

خطر غزو أردوغان لليبيا واحتلالها لا يقتصر على ليبيا، بل هو يهدد كل دول المنطقة، بحيث سيتم تحويل ليبيا إلى مركزٍ جديد لتصدير الإرهاب، بعدما ضاقت الدنيا على تنظيمات الإرهاب في سوريا والعراق من “داعش” إلى “جبهة النصرة”، وبعدما جعل الجنوب التركي أشبه ما يكون بقندهار في الثمانينيات لتصدير الإرهابيين.

خطر هؤلاء الإرهابيين المدعومين من تركيا ودولةٍ عربية صغيرة في ليبيا يقع على مصر، التي تعتبر هدفاً أول في استراتيجية تركيا و”الإخوان” والدولة الصغيرة لزعزعة أمنها وتهديد استقرارها وإنهاك جيشها، كما يمتد إلى تونس من خلال دعم حركة “النهضة” بالمقاتلين المدربين والمسلحين، وتهديد خصومها السياسيين داخل تونس، ولا يقف عن هدف نشر الفوضى واستعادة الإرهاب في الجزائر، وإعادة إحياء مثلث الجزائر مالي موريتانيا وتنظيم “القاعدة” هناك، وبالتالي فالخطر التركي متعدد الزوايا، ويجب أن تكون مواجهته بكل هذا الشمول.

أخيراً، فمن دروس التاريخ أن البعض يستسهل شنّ الحروب وغزو البلدان والأمم والشعوب، ولكنّه لا يستطيع الهروب من أوحالها عندما تشتد، ويأخذ التاريخ مجراه الطبيعي.

نقلا عن الاتحاد

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى