تركيا والبحر الأسود وأوكرانيا.. معضلة التوازن
مع التصعيد الجاري في الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، تبرز أهمية دور تركيا في البحر الأسود.
وحساسية موقفها في التوازن بين موسكو وواشنطن، التي من الواضح أنها باتت تعطي أولوية لهذا الملف، في ضوء سعيها لضم أوكرانيا للحلف الأطلسي، وتنبع حساسية الموقف التركي من التداعيات المحتملة للأزمة الأوكرانية على العلاقات التركية بكل موسكو وواشنطن، فضلا عن علاقتها الخاصة بجزيرة القرم التي تعدها تركيا جزءا من العالم التركي بحكم الروابط الدينية والعرقية والتاريخية، والثابت هنا هو أن تركيا العضو في الحلف الأطلسي تريد تحسين علاقتها مع إدارة الديمقراطي جو بايدن وفي الوقت نفسه الحفاظ على تقاربها مع موسكو، ولا سيما بعد صفقة منظومة إس-400.
خلال الأيام الماضية برزت سلسلة تطورات تشير بتحول البحر الأسود في الفترة المقبلة إلى بحر ساخن على وقع التصعيد الجاري بين روسيا وأوكرانيا، ولعل من أهم هذه التطورات:
1- الحشود العسكرية التي أرسلتها روسيا إلى مقاطعة دونباس عقب مقتل أربعة جنود أوكرانيين، وهو ما استدعى استنفارا لقوات حلف الناتو في كل من رومانيا وبولندا، بالتزامن مع إعلان كييف وثيقة استراتيجية لتحرير القرم بعد نحو سبع سنوات على إلحاقها بموسكو.
2- الزيارة المفاجئة للرئيس الأوكراني زيلينسكي إلى تركيا قبل أيام، ومع أن المواقف التي صدرت عنه ونظيره التركي أردوغان خلال الزيارة كانت تكرارا للمواقف السابقة بشأن ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي الأوكرانية، إلا أن الزيارة وجهت الأنظار إلى الدور التركي في الأزمة الأوكرانية إذا تطورت عسكريا.
3- الحديث المكثف في تركيا عن البدء بمشروع قناة إسطنبول وإمكانية إعادة النظر في اتفاقية مونترو التي تنظم عبور السفن عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، ومن ثم بيان الأدميرالات المتقاعدين، وقبلهم بيان 126 دبلوماسيا متقاعدا، وكئلك بيان 98 عضو برلمان سابقين، ولعل كل هذا الجدل استدعى محادثة هاتفية بين بوتين وأردوغان، طالب الأول خلالها الثاني بضرورة الحفاظ على اتفاقية مونترو، وسط مخاوف روسية من أن يؤدي تنفيذ قناة إسطنبول إلى فتح الباب واسعا أمام الوجود العسكري الأمريكي في البحر الأسود، خاصة أن الولايات المتحدة طالبت مبكرا بإقامة هذه القناة، وذلك خلال اللقاء الذي جمع بين وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق كوندليزا رايس مع نظيرها التركي عبدالله جول عام 2006 (كان جول وقتها وزيرا للخارجية قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية في العام التالي).
4- إرسال واشنطن سفنيتين حربيتين إلى البحر الأسود مع التأكيد على أن السفينتين ستبقيان هناك، وهو ما يشكل مخالفة لاتفاقية مونترو، التي تؤكد عدم السماح لسفن الدول غير المطلة على البحر الأسود بالبقاء لأكثر من ثلاثة أسابيع، وقد جاءت الخطوة الأمريكية في إطار السياسة التصعيدية للرئيس بايدن ضد روسيا، حيث طلب من الكونجرس تخصيص مبلغ 715 مليار دولار لمواجهة ما أسماه بالتهديدات الروسية والصينية، ولعل هذا ما دفع بالكاتب برجان توتار المقرب من أردوغان إلى القول في صحيفة صباح التركية “إن التوتر الجاري في البحر الأسود هو نتائج لسياسة بايدن، وإن الأخير يطمح إلى إدخال حاملات الطائرات إلى البحر الأسود إذا وافقت تركيا”، مشيرا إلى أن هذه الخطوة قد تؤدي إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة.
في الواقع، يمكن القول إنه رغم الموقف السياسي التركي الداعم لأوكرانيا في الأزمة الجارية مع روسيا إلا أن أنقرة تتعامل مع روسيا بحذر شديد في هذه الأزمة والتطورات التي تتصل بها في البحر الأسود، إذ تدرك تركيا جيدا أن معظم الحروب التي نشبت بين روسيا القيصرية والإمبراطورية العثمانية كانت بسبب منطقة البحر الأسود، وقد انتصرت الأولى في معظمها، حيث إن إغضاب الدب الروسي يحمل مخاطر كثيرة، خاصة أن روسيا باتت في جنوب تركيا من خلال وجودها العسكري على الأراضي السورية، وعليه حساسية الموقف التركي قد تدفع بأردوغان إلى الذهاب لأقصى درجات الحذر والتوازن والحرص، ولكن ماذا لو اندلعت الحرب بين أوكرانيا وروسيا حتى لو كانت بالوكالة؟ وماذا لو دفع بايدن استراتيجية التصعيد ضد روسيا إلى حافة الحرب من بوابة البحر الأسود؟
ثمة من يعتقد أن الحذر التركي لن يطول كثيرا لصالح الاصطفاف العملي إلى جانب الولايات المتحدة والحلف الأطلسي وأوكرانيا، فكل ما فعله لينين قائد الثورة الاشتراكية في روسيا ومن بعده ستالين لجعل تركيا دولة مستقلة عن الغرب بعد انهيار الدولة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى لم ينفع في إقامة صداقة مستدامة بين الجانبين، بل إن تركيا انضمت لاحقا للحلف الأطلسي بحجة التهديد السوفييتي لها، ومنذ ذلك الوقت تجد تركيا نفسها نائمة في الفراش الأطلسي حتى لو اقتربت من روسيا تحت هذا الظرف أو ذاك، ربما هو تاريخ الصراع في العلاقة التركية-الروسية الذي ركب عليه قوة الأطلسي وشغفه التوسعي بعد انتصاره التاريخي على المعسكر السوفييتي.