سياسة

تركيا تنتظر ساعة الانهيار


عندما اندلعت أزمة انهيار سعر الليرة التركية في العام 2018 اضطر المصرف المركزي إلى رفع أسعار الفائدة إلى 24 في المئة.

هذا الإجراء ساعد في حماية الليرة، لأنه أظهر لها قيمة تعادل 24 في المئة من سعرها سنويا. بمعنى، إذا كان لديك 100 ليرة تحتفظ بها في البنك، فإنها سوف تبلغ في نهاية العام 124 ليرة.

العامل التضخمي هو عامل مضاد لهذه العملية الحسابية. فلو كان معدل التضخم 24 في المئة سنويا. فإن الـ100، التي أصبحت 124 ليرة، سوف تعود لتكون من حيث قيمتها الفعلية 100 ليرة فقط.

ماذا فعل رجب طيب أردوغان منذ ذلك الوقت؟

لقد طرد مدير المصرف المركزي مراد تشتين قايا، لأنه رفض خفض أسعار الفائدة، وعيّن بدلا منه نائبه مراد أويصا، الذي سارع إلى فعل ما يطلبه أردوغان وصهره وزير المالية بيرات البيرق.

أردوغان أراد خفض أسعار الفائدة لسببين رئيسيين. الأول، لكي يخفض تكلفة الاقتراض الداخلية على الشركات، لعلها تستطيع أن تنشط من عملياتها الإنتاجية، بحيث تستطيع مواجهة تكلفة ديونها الخارجية التي كانت تبلغ في ذلك الوقت 214 مليار دولار، من أصل إجمالي الدين الخارجي التركي العام والخاص البالغ 453.2 مليار دولار.

والثاني، لكي يرفع مستوى تنافسية الليرة التركية. وهو أمر يعتمد على قدرة المصانع على الإنتاج، بكلفة سعرية رخيصة، وعلى عائدات السياحة.

وبطبيعة الحال، فإن ارتفاع قيمة الدولار، سوف يعني أن الشركات التركية سوف تعجز عن تسديد ديونها. كما تعجز الدولة نفسها، من بعد ذلك، عن تسديد حصتها من الديون.

ماذا حصل من بعد ذلك؟

قبل أن تندلع أزمة وباء كورونا، بدا أن الليرة تستطيع أن تتنفس، بسبب هذا الإجراء. إلا أن ذلك كان شيئا يشبه عملية التنفس الاصطناعي. لأن معدلات التضخم ظلت ترتفع، من دون أن يتمكن المصرف المركزي من اتخاذ أي إجراء، وذلك لسبب سياسي محض، وليس حسبما تفرضه الحقائق الاقتصادية.

في نهاية عام من عمليات التنفس الاصطناعي، جاءت كورونا لتمد لسانها لأردوغان. الإنتاج تراجع بحدة كما تراجعت السياحة إلى حدود تقارب الصفر. وبينما تراجعت الفائدة إلى 8.5 في المئة، فقد ظلت معدلات التضخم السنوي ترتفع حتى وصلت إلى 12.37 في المئة.

ماذا يعني ذلك؟

إنه يعني، لو أنك اقترضت مليار ليرة، وقمت بتحويلها إلى ذهب أو دولار فورا، فإنك في نهاية العام سوف تدفع مليار ليرة، زائد 8.5 في المئة فوائد، ناقص 12.37 في المئة تضخم. وهو ما يكاد يعني أنك نجحت في الحصول على نحو 3.5 في المئة مجانا.

عملية النهب “الشرعية” هذه لم تكن لتخدم المواطنين الأتراك، ولكنها تخدم “تجار” السلطة وشركاتها بالدرجة الأولى.

ماذا يجري الآن؟

هيئة الإحصاء التركية قالت في يوليو الماضي إن إجمالي العجز في الميزان التجاري التركي خلال النصف الأول من العام الجاري 2020، قفز بنسبة 73.2 في المئة مقارنة مع نفس الفترة المقابلة من العام الماضي 2019. وبلغت قيمة هذا العجز نحو 23.87 مليار دولار أميركي، مقارنة مع 13.7 مليار دولار أميركي في الفترة المناظرة من العام الماضي، أي بزيادة 10 مليارات دولار.

المواطنون العاديون أدركوا واقع الاستنزاف، ولو متأخرين. فعمدوا إلى تحويل كل ما يملكون من ليرات إلى دولار أو ذهب. حيث سجلت حسابات المقيمين ارتفاعا بقيمة 604 ملايين دولار لتصل إلى 217.9 مليار دولار، بينما ارتفعت ودائع الذهب بقيمة 599 مليون دولار لتبلغ 32.8 مليار دولار، مقارنة بالعام الماضي. وهو ما يرسم مؤشرا واضحا لتراجع الثقة ليس بالليرة التركية وحدها، وإنما بقدرة الاقتصاد على الصمود.

صندوق النقد الدولي، قال في تقرير له في يونيو الماضي إن تركيا جاءت ضمن الدول التي تراجعت إلى ما دون حد كفاية احتياطي النقد الأجنبي، وإنها تتجه إلى الركود الثاني في أقل من عامين، وذلك بعد انكماش اقتصادي يبلغ نحو 5 في المئة.

وقال الصندوق في تقرير عن وضع البنوك المركزية حول العالم ومستوى احتياطيات النقد الأجنبي، بعنوان “الشروط التمويلية خففت لكن خطر الإفلاس كبير”، إن تركيا تحتاج لتمويل يبلغ 164.6 مليار دولار لسداد ديون قصيرة الأجل تستحق خلال 12 شهرا. وفي حين بلغ العجز في الحساب الجاري لتركيا خلال الربع الأول من العام 12.9 مليار دولار، فمن المتوقع أن يصل العجز إلى 30 مليار دولار بنهاية العام، وهو ما يعني وفق تقديرات الخبراء أن احتياج تركيا من التمويل الخارجي سيصل إلى 195 مليار دولار.

وبينما قدمت قطر، في محاولة يائسة للإنقاذ نحو 10 مليار دولار، فقد لجأ المصرف المركزي إلى حيلة مقايضة بالعملة وفرت له 10 مليار دولار أخرى، سددت قطر معظمها.

ومع ذلك فقد ظلت الاحتياطيات الرسمية للبنك المركزي التركي تتراجع. ففي مايو الماضي انخفضت بنسبة 1.3 في المئة على أساس سنوي، من 95.6 مليار دولار في نهاية مايو 2019. إلى 90.9 مليار دولار حتى نهاية مايو الماضي.

ويبلغ إجمالي الناتج المحلي التركي 2.275 تريليون دولار. وهذا حجم لا يتناسب مطلقا مع هذا المقدار الضئيل من الاحتياطات النقدية.

إن مقارنة حجم الديون، بحجم الاحتياطات النقدية تشير إلى أن لبنان في وضع أفضل. إذ يبلغ إجمالي الديون الخارجية للبنان 91 مليار دولار، بينما يمتلك مصرفه المركزي احتياطات تبلغ 20 مليار دولار.

وبينما تراجعت الصادرات التركية في أغسطس الماضي بنسبة 13 في المئة، فإن التضخم عاد ليسجل معدلات سنوية تفوق معدلات الفائدة.

عملية الاستنزاف هذه، إنما تعني أن تركيا سوف تعجز عن تسديد أقساط ديونها الخارجية. وسعر الليرة الذي ظل يكافح للبقاء دون 8 ليرات مقابل الدولار إنما يقف على حافة هاوية سحيقة.

وحتى لو عاد سعر الفائدة ليرتفع إلى 50 في المئة، فإنه لن ينقذ البلاد من الإفلاس. وذلك لسبب آخر، هو أن عملية التنفس الاصطناعي سوف تتوقف، لتتحول إلى عملية اختناق لتقضي على “الرجل المريض” مرة أخرى.

* نقلا عن “العرب

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى