قرار بعض الدول الأوروبية تدريب آلاف الجنود الأوكرانيين على أراضيها ينطوي على جملة تحولات يفرزها النزاع الروسي الأوكراني.
أول هذه التحولات انتقال القارة الأوروبية إلى ساحة إسناد عمليّاتي، والانخراط فعليا في متاهات النزاع، بعد أن تبنّت سياسة الدعم التسليحي والمالي والسياسي السخيّ والمعلن.
وثاني التحولات تعميق الجفاء بين أوروبا وبين روسيا، وتنمية بذور العداء معها، وثالثها تراكم الأعباء الاقتصادية ورفع منسوب القلق الأمني في عموم القارة.
المدة المقترحة للمهمة التدريبية كخطوة أولى تمتد لأربعة وعشرين شهرا، اعتبارا من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، تتولى خلالها فرنسا وألمانيا بشكل أساسي، إضافة إلى بعض دول الاتحاد الأوروبي، تدريب نحو خمسة عشر ألف جندي أوكراني على استخدام صنوف متعددة من الأسلحة البرية والجوية والصاروخية، التي زوّدت بها أوكرانيا وستزودها بها مستقبلا.
عوامل تعقيد أخرى تُضاف إلى المشهد تعزز الاستنتاج القائل بأن النزاع الروسي-الأوكراني دخل نفقًا فيه كثير من المنعطفات الحادة، وربما المفاجآت الصادمة، دون وجود ضوء ينبئ بنهايته أو يشيع أملا في النهاية.
فموسكو، التي انتقلت من التلميح برد عسكري يتناسب مع طبيعة التهديد الأطلسي، الذي تفترض حدوثه عبر النافذة الأوكرانية، إلى التلويح بقدراتها النووية الردعية حال واجهت ما تعتبره تهديدا وجوديا لها، تعتبر تبنّي بعض دول أوروبا مشروع تدريب جنود أوكرانيين في ظل استمرار النزاع “خطوة ميدانية تصعيدية ضدها من جانب الأوروبيين”.
والرئيس الروسي فلاديمير بوتين ترجم اهتمامه الجدي بخيارات الردع غير التقليدية بالإشراف الشخصي على تدريبات لأحد قطاعات “قوات الردع النووي”.
في كلا التوجُّهين، الأطلسي والروسي، ثمة ما يُفصح عن تصعيد مطّرد تشهده الأروقة الخلفية لإدارة النزاع بمستوياته المباشرة، كما الحال في الجانب الروسي، أو في سياقاته غير المباشرة كما الحال في دول الاتحاد الأوروبي.
بين هذين السياقين تطفو على السطح تحذيرات رسمية روسية على أعلى المستويات حول ما تصفه باستعدادات أوكرانية لاستعمال “القنبلة القذرة”، كما تسميها موسكو، فنشّطت دبلوماسيتها الاستباقية في أكثر من اتجاه تنبيهًا وتحذيرًا من مغبة حدوث ذلك، في حين تنفي كييف نيّتها استخدام مثل هذا السلاح.. وحلف “الناتو” يتبنّى هذا النفي بالطبع.
وقد أغدق الأوروبيون، ويغدقون، على أوكرانيا في هذا النزاع مع روسيا مساعداتٍ ماليةً وعسكرية هائلة، وكلما طال أمد النزاع تقدمت الطروحات والمواقف التصعيدية في جميع الميادين وتباعدت مواقف الأوروبيين مع موسكو أكثر، بالتوازي مع عاملين مؤثرين يغذيان هذا التباعد، الأول نابع من مواقف الولايات المتحدة الأمريكية التي تتبنّى استراتيجية تقوم على حقن جذوة الصراع بما يخدم مصالحها وأهدافها على حساب جميع الأطراف، بما فيها حلفاؤها الغربيون من ناحية، وتعمل من ناحية ثانية على ضبط تصرفات الجانب الأوكراني ميدانيا، بحيث لا يصل إلى حدود استفزاز الجانب الروسي ودفعه لسلوك خيارات ميدانية وعسكرية تضر باستراتيجية واشنطن القائمة على مبدأ إدارة النزاع وإطالة أمده وإبقاء الجميع تحت سقف متطلباته وشروطه.
أما العامل الثاني فيتمثل في انزلاق الدول الأوروبية الواقعة تحت وطأة الضغط الأمريكي إلى ساحات الاحتكاك غير المباشر تدريجيا مع جارتهم روسيا، وتوسيع مروحة التباين والتناقض معها على حساب استقلالية قرارها وتقلص خياراتها الدبلوماسية المتعلقة بلعب دور الوساطة المنشود بين طرفي النزاع.
قد تكون الأشهر القليلة المقبلة، أي فصل الشتاء، فَيْصلا في تحديد وجهة بوصلة المواقف الأوروبية من النزاع الروسي الأوكراني، ففي حال تفاقمت الحاجة الطاقوية لدى الأوروبيين ولم تتمكن دولهم من تأمين البدائل المطلوبة لأسباب مختلفة، منها التكاليف الباهظة، فقد تؤول الأمور إلى القوى والطبقات الاجتماعية وأحزاب المعارضة وتفرض رسم توجهات البلاد وسياساتها بما يتناسب مع مطالبهم وحقوقهم.
وقد يشكل سلوك هذا السبيل مخرجا ملائما لبعض القادة الأوروبيين كي يتخذوا موقفا غير منحاز يؤهلهم للعب دور الوساطة لإنهاء النزاع، أما إذا استمرت الدول الأوروبية في التماهي مع النهج الأمريكي المتعلق بالنزاع الأوكراني الروسي، فستكون أولى نتائج هذا التماهي مضاعفة فاتورة الاستنزاف الاقتصادي بكل تفاصيله، وأخذ دول القارة نحو ظاهرة العسكرة بكل ما تعنيه من تبدلات وتحولات اجتماعية وأمنية واقتصادية، ووضع شعوبها ومقدراتها حاضرا ومستقبلا تحت هواجس الحروب والصراعات التي عانتها على مدى قرون سابقة، واعتقدت أنها طوت صفحتها إلى الأبد.