نجا بوريس جونسون من محاولة النواب “المتمردين” في حزبه سحب الثقة منه.
وحافظ رئيس الوزراء البريطاني على كرسيه إلى فترة تمتد نظريا حتى الانتخابات البرلمانية المقبلة عام 2024، ولكنها قد تطول أو تقصر وفقا لمستجدات المشهد السياسي والوضع الاقتصادي في المملكة المتحدة حتى ذلك الحين.
نحو 150 مشرعًا من المحافظين أشهروا “تمردهم” ورفضهم لبقاء “جونسون” في قيادة الحزب والبلاد، ولكن العدد لم يكن كافيا لإسقاط أول رئيس وزراء يُغرَّم لمخالفته القوانين.
انتصر “جونسون” في هذه المعركة لأسباب مختلفة، ولكن هذا النصر لا يحمل أي ضمانات لمستقبله أو مستقبل حكومته القريب.
السوابق التاريخية تنصح بوريس جونسون بكظم فرحه وعدم الزهو بنفسه، لأن من عاش قبله نصرًا مشابها في حزبه، وجد نفسه خارج السلطة بعد وقت قصير من الفوز باقتراع الثقة.
له العبرة في المرأة الحديدة مارجريت تاتشر عام 1990، وفي رئيسة الحكومة، التي سبقته، تيريزا ماي عام 2018.
رئيس الوزراء قال بعد اقتراع الثقة إنَّ الوقت قد حان لتجاوز “رغبة الإعلام” في إزاحته، والمضي نحو تحقيق الأهداف التي انتُخب على ضوئها مع نوابه وحكومته.
وكأن وسائل الإعلام المحلية “تحيك مؤامرة” ضد “جونسون” لغاية ما في نفسها، وليس لأنه خالف القانون فيما يُعرف بـ”فضائح الحفلات”.
الإعلام البريطاني واكب رغبة الشارع بـ”محاسبة جونسون” على الأخطاء التي ارتُكبت في “حفلات رئاسة الحكومة”.
أما قبل هذه الفضيحة فكان الإعلام يمارس دوره الروتيني في متابعة تعامل الحكومة مع تداعيات “بريكست” ووباء كورونا، ولم يتبَنَّ حملاتٍ تطالب باستقالة أو إقالة “جونسون” وحكومته.
ما فعله “جونسون” من تجاوز للقوانين في “فضيحة الحفلات” كان سابقة استحقت رد الفعل الإعلامي والشعبي والسياسي.. ولولا الظروف الداخلية والدولية التي خلقتها حرب أوكرانيا، لكان رئيس الوزراء أمام مصير محتوم، ألا وهو الاستقالة.. خاصة أن مشكلات “بريكست” كانت قد تراكمت ضده بما يكفي.
“جونسون”، الذي ظفر بثقة ثلثي النواب المحافظين للاستمرار في منصبه، يواجه اليوم أربعة تحديات رئيسية، أولها يتمثل في القاعدة العريضة من المعارضين له داخل حزبه الحاكم.. فثلث المشرعين المحافظين باتوا يتربصون برئيس الحكومة وينتظرون وقوعه في أي خطأ كي يعيدوا “محاكمته” البرلمانية والحزبية.
لا شيء يمنع تعاون خصوم “جونسون” من داخل حزبه وخارجه.. خاصة إنْ فشل في تحقيق أهداف الحكومة بتخفيض كلفة المعيشة على المواطنين، وضمان حل جميع المشكلات التي أفرزها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.. وهذه الأهداف بذاتها تشكل تحديا لا يُستهان به على الإطلاق.
“الحرب” مع الإعلام لم تنته بعد.. وما حدث في التصويت على الثقة بـ”جونسون” كان مجرد معركة.
ما تفعله الحكومة من اليوم فصاعدا سيمر عبر مجهر الإعلام وليس فقط عدسته أو كلمته، وسيبذل “جونسون” ووزراؤه جهودًا مضاعفة لتبرير إجراءاتهم، والتأكد من قراراتهم قبل إصدارها والإعلان عنها رسميًّا.
والتحدي في مواجهة وسائل الإعلام لا يتمثل فقط في إقناع أقلامها ومنتجيها بنيَّات الحكومة في خدمة المواطنين والدولة، وإنما في إقناع البريطانيين أنفسهم بأن “جونسون” ووزراءه يستحقون فرصة ثانية، ويمكنهم أن يكسبوا ثقة الشارع مجددًا بعد أن “خانوا” القوانين التي أصدروها بأنفسهم خلال الجائحة.
لا شك أن استعادة ثقة البريطانيين هو التحدي الأكبر أمام “جونسون” اليوم.. وهو تحدٍّ تورطت فيه الحكومة حاليا، والحزب الحاكم على المدى المتوسط.
وإن لم ينجح رئيس الوزراء بإقناع الشعب أنه نادم على خطئه، وأنه قادر على اتخاذ قرارات مهمة لصالح الناس، فسيصبح مستقبل المحافظين على المحك.
الجزء الأهم في القرارات المرتقبة هو دعم الفقراء وأصحاب الدخل المحدود.. وهذه الفئة لم يعتد حزب المحافظين على جعلها أولوية تسبق مصالح أرباب المال والأعمال في بريطانيا.. فالأثرياء هم الحاضنة الكبرى للحزب، والمتبرعون من أصحاب الشركات والمصانع هم من يعوَّل عليهم في الانتخابات.
رُبّ ضارة نافعة كما يقال.. فالفضائح التي تلاحق “جونسون” وضعت تحسين مستوى معيشة الناس ودعم الضعفاء على رأس أولويات الحكومة.. كما كبحت الفضائح “تجاهل” رئيس الوزراء في التعامل مع القضايا العالقة حتى الآن في ملف “بريكست”، واحتواء التداعيات المتبقية لجائحة كورونا.
ثمة عامان فقط أمام المحافظين لإنجاز كل الأهداف المعلنة من قبل الحكومة.. والانتخابات العامة عام 2024 ستكون ميزان كل القرارات والإجراءات التي اتخذها “جونسون” وفريقه خلال عامين.. فإنْ غلبت الكفة لصالحهم استمروا في السلطة، وإنْ حدث العكس غادروا بعد أكثر من عقدين متواصلين من الحكم.
المفارقة أن تحقيق الأهداف “المرتقبة” لا يضمن لرئيس الحكومة الاستمرار في قيادة حزبه والترشح لولاية ثانية.. فالمحافظون يطالبون “جونسون” بـ”التكفير” عن خطئه واسترداد ثقة البريطانيين بهم، دون مقابل.
لم يحصل، وربما لن يحصل أبدًا، على وعود بأن يخوض استحقاق عام 2024 كزعيم للحزب.
قد يكون هذا أكبر مخاوف “جونسون” الآن وهو يمضي في كل ما يفعله وسيفعله للتغلب على مخاوفه وفرض نفسه مرة أخرى كأفضل خيار لقيادة المحافظين حتى نهاية العقد الثاني من الألفية.
وكما يقول الكاتب والشاعر الأمريكي مارك توين: “لكي تنجح في حياتك تحتاج إلى أمرين، التجاهل والثقة”.