سياسة

تجديد الفكر العربي مرة أخرى


يبدو أن المنطقة العربية تحتاج إلى موجة جديدة من تجديد الفكر العربي تنفض عنها غبار أفكار تجاوزها العصر وبالتأكيد الحكمة السياسية للتعامل مع قضايا باتت أزلية من أول الهوية وحتى التنمية والصراعات الإقليمية المختلفة والمزمنة مع الجوار وفي المقدمة منه إسرائيل. الموجة الأولى للفكر “العربي” الحديث ولدت في القرن التاسع عشر والذي كان بالنسبة للعرب عملية للخروج من العصور الوسطى العثمانية التي على مدى أربعة قرون قامت بعملية “تتريك” للوحدات السياسية العربية التابعة لدولة الخلافة التي باتت متخلفة عن العصر الذي تعيش فيه. كانت دولة الخلافة قد باتت رجل أوروبا المريض ليس فقط عسكريا وإنما اقتصاديا ومعرفيا فضلا عن الانكماش الأوروبي الكبير للإمبراطورية. كان “جورج أنطونيوس” هو الذي أرخ لهذه الموجة من خلال كتابه عن “اليقظة العربية” التي تولدت من عدة عمليات متشابكة كان أولها إحياء اللغة العربية مرة أخرى باعتبارها تعبيرا عن هوية مختلفة؛ وثانيها أن هذه الهوية غنية ثقافيا إلى حد كبير شعرا ونثرا وكتابة وظهر ذلك من خلال الصحافة والمسرح والجمعيات الثقافية والاجتماعية المختلفة؛ وثالثها أنه مع الضعف العثماني فإن الهجمات الاستعمارية الفرنسية والبريطانية جددت نزعة الوطنية العربية في الأراضي التي باتت محتلة للنضال ضد الغزاة الجدد. الموجة الثانية بدأت بعد الحرب العالمية الأولى وما حدث فيها من “الثورة العربية” وما ترتب عليها من بزوغ دول عربية تستند إلى تراث عربي وهوية عربية وقامت على قدمين: أحدهما مواجهة الاحتلال الأجنبي، والأخرى التحديث والمعاصرة في التعليم وإنشاء المدارس والجامعات والاستعانة بكافة أدوات الحضارة الأخرى في الزراعة والصناعة والعيش في عمومه. الموجة الثالثة جرت بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتأكيد مع مولد حزب البعث في الأربعينيات ومطلع الخمسينيات مع الثورة المصرية الناصرية حينما باتت الدعوة العربية تدور حول “القومية العربية” و”الوحدة العربية” وكلاهما قام على وجود عناصر مشتركة من لغة وتاريخ ومصالح بين الدول العربية المختلفة.

“الفكر العربي” الذي نما خلال هذه الموجات الثلاث واجه ثلاثة تحديات كبرى: الأول الافتقار إلى النضج الحداثي الكافي الذي يعرف كيف يقيس توازنات القوى، ويجعل الموارد قادرة على الاستجابة لمعضلات الزيادة السكانية والاعتماد على الخارج المكروه شرقا وغربا في كل الأمور من السلاح إلى الدواء. والثاني تحدي المنافسة الشديدة مع التيار الإسلاموي الذي كان يبحث بقوة عن هوية دينية للدول الوطنية تجمعها في حزمة خلافة جديدة واحدة تعيش في حالة صراع أبدي مع الغرب. والثالث تحدي المواكبة بين الهوية العربية والفكر العربي في ناحية والصراع العربي الإسرائيلي من ناحية أخرى؛ بحيث باتت “العروبة” ليست تعبيرا عن أمة واسعة المساحة وعميقة الحضارة، وإنما هي الجماعة التي تعادي إسرائيل في معاداة وجودية. لم يكن الصراع مع إسرائيل جديدا على صراعات الدول الوطنية العربية مع أشكال مختلفة من الاحتلال الأجنبي؛ ومع ذلك كان هذا الصراع تحديدا هو المحدد للهوية العربية. عرف العرب قضايا الاستقلال الوطني والنضال من أجله، وكانت كل دولة عربية تحصل على التأييد والعون من الدول العربية الأخرى، ولكن المسؤولية الأساسية للكفاح ظلت دوما مسؤولية الشعب المعني. القضية الفلسطينية، والفلسطينيون وحدهم، حصلوا على مكانة “القضية المركزية” مصاحبة بعملية للانسحاب الديمغرافي والسياسي من المواجهة مع إسرائيل؛ فكان الضغط العربي على الفلسطينيين بالخروج من فلسطين مضافا للضغط والجرائم الإسرائيلية لكي تكون فلسطين خالية من أهلها فتكون لقمة سائغة للمحتلين. لم يتم التعامل مع القضية المركزية بنفس الطريقة التي جرى التعامل معها مع كافة قضايا الاحتلال البريطاني لمصر والعراق وفلسطين وجنوب اليمن، والاحتلال الفرنسي لتونس الجزائر والمغرب وسوريا ولبنان، والاحتلال الإيطالي لليبيا. لم يحدث أبدا خلال هذه العمليات النضالية لا أن طولب الشعب العربي بالانسحاب من وطنه، ولا صارت عواصم الدول الاستعمارية محرمة على الزائرين أو طالبي العلم العرب. بشكل ما صارت “إسرائيل المزعومة” أو “الكيان الصهيوني” نوعا من “النجاسة” التي لا يجوز الاقتراب منها لا على الأرض الفلسطينية ولا في المحافل الدولية. استراتيجية المقاطعة حرمت فلسطين من أهلها والتوازن السكاني المطلوب للحصول على الاستقلال.

مقالات ذات صلة

النتيجة كانت خسارة فرصة قرار التقسيم ١٩٤٧ الذي كان فيها أكثر من ثلث سكان إسرائيل من العرب الفلسطينيين، بينما لم يكن العكس في الدولة العربية صحيحا حيث كانت الأغلبية الساحقة من العرب، وفوق ذلك كانت القدس تحت وصاية دولية. الخسارة الأكبر أن الفكر العربي أصبح أسير القضية الفلسطينية سواء في عمليات البناء الداخلي التي دارت دوما حول إمكانيات صراع قادم ومحتمل وهو ما حدث فعلا عبر عدة حروب كان كلا منها كفيلا بتفريغ القدس والضفة الغربية الفلسطينية من السكان، مضافا لها الحفاظ على فراغات سكانية كبيرة على الحدود في سيناء. تفاصيل فصول الصراع العربي الإسرائيلي معروفة على مدى العقود السبعة الماضية، والتي تغيرت فيها إلى حد كبير الدنيا كلها من النظام الدولي إلى وسائل الإنتاج إلى العلاقات الإقليمية التي جعلت مرة أخرى القضية الفلسطينية سلاحا ليس مع العرب أو الفلسطينيين وإنما ضدهم بعضها خارجي من إيران وتركيا وبعضها داخلي من المتعاونين معهم في قطر وحزب الله والحوثيون. الأمر هكذا بات يحتاج إلى جولة جديدة من “تجديد الفكر العربي” يجعل من الإصلاح والتقدم العربي جوهرا فكريا يتجاوز ما كان قائما على الانغلاق والانسحاب والمقاطعة، وإنما على الانفتاح والاشتباك والانخراط في التجربة العالمية لبناء الحضارة المتوائمة مع حقائق الكوكب والكون في القرن الواحد والعشرين.

المرحلة الجديدة في “تجديد الفكر العربي” تقوم بجدية كبيرة على فكرة الدولة الوطنية في مواجهة الدولة الدينية، والتقدم في مواجهة الخلاص، والعلوم في مواجهة الشعوذة الغيبية. الدولة الوطنية يجري تكوينها عندما يعود تاريخ الدولة إلى لحظة استقرار شعب وحضارة على قطعة من الأرض لها حدود جغرافية مستقرة. والتقدم هو حالة دينامية انتقل فيها الإنسان من حالة أخرى، ومن ثورات زراعية إلى أخرى صناعية إلى ثالثة معلوماتية وهكذا انتقالات على سلم صاعد في الشروط الإنسانية. والعلم هو تمجيد للعقل الإنساني وقدرته على التفكير المنطقي والاكتشاف والتجديد وتعقب المجهول حتى ينكشف وليس الاستسلام لما فيه من غموض وظلام. العالم العربي في هذه الحالة مركب حضاري من دول لها مصالحها الخاصة التي تستحق السعي والبناء، ولكنها غير المتناقضة بالضرورة مع بعضها البعض، والتي فيها الكثير من الابتكار والإبداع في التعامل مع القضية الفلسطينية بحيث توقف المزيد من الاحتلال الإسرائيلي من ناحية والثقة بالنفس والقدرة على التعامل مع إسرائيل من ناحية أخرى. مصر في السابق بحكم حجمها وثقلها الديموغرافي لم تنجح فقط في استعادة أراضيها المحتلة؛ والإمارات بثقتها بنفسها فتحت أبوابا للتعاون مع الدولة الإسرائيلية بدأت بوقف ضم أراض فلسطينية جديدة إلى إسرائيل.

أكثر من ذلك كان السعي إلى الإصلاح والتجديد واحدا من ردود الفعل العربية البناءة خلال السنوات الأخيرة لما جرى في المنطقة منذ عام ٢٠١٠ من تراجع وصراع. وظهر ذلك بقوة في العديد من الدول العربية التي قامت بتغييرات جذرية في السعي التنموي والاكتشاف التاريخي والنهضة التعليمية والامتزاج بالعصر وما فيه من تقدم علمي وتكنولوجي. وما حدث في هذا الاتجاه جرى معظمه في إطار الدولة الوطنية مع درجات مختلفة للتعاون الإقليمي سواء تم ذلك باستغلال طاقات الغاز في شرق البحر المتوسط، أو القدرات العلمية والتكنولوجية لدولة الإمارات. “تجديد الفكر العربي” في هذه المرحلة التاريخية ضرورة.

نقل عن العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى