تبرئة الحلبوسي تعيد رسم خريطة التحالفات السنية

برّأ القضاء العراقي محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان السابق وزعيم حزب “تقدم”، من تهم التزوير التي أُقيل بسببها في 2023، فاتحًا الباب أمام عودته القوية إلى المشهد البرلماني، وبشكل خاص إلى رئاسة المجلس، في وقت يشهد العراق فيه صراعات سياسية حادة واستعدادات معقدة لانتخابات برلمانية مرتقبة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، حيث يعيد القرار تشكيل التوازنات داخل البيت السياسي السني.
وتعيد التبرئة من تهم التزوير ترتيب ملامح المشهد السياسي السني في العراق، الذي يعيش حالة من التشتت والانقسام منذ الانتخابات الأخيرة. ففي الوقت الذي تراجعت فيه مكانة بعض الزعامات التقليدية بسبب خلافات داخلية أو ملفات مثيرة للجدل، تتيح البراءة القضائية للحلبوسي فرصة استعادة زمام المبادرة وتوحيد الصفوف السنية تحت مظلة حزب “تقدم” أو من خلال تحالفات جديدة. ويبدو أن عودته إلى الواجهة ستُضعف موقف خصومه من داخل المكوّن ذاته، خصوصًا في ظل تراجع شعبية بعض الشخصيات المرتبطة بتسجيلات وتسريبات أضعفت رصيدها السياسي والشعبي.
ويواجه المشهد السياسي مرحلة إعادة تشكيل، خصوصًا بعد التسريبات الصوتية الأخيرة المنسوبة إلى خميس الخنجر، زعيم حزب “السيادة”، والتي أثارت موجة من الجدل والغضب بسبب لهجته الطائفية. هذه التسريبات أضعفت من موقف الخنجر وأحرجت حلفاءه، ما يدفع الكثير من القوى السنية إلى البحث عن قيادة أكثر توازنًا وتأثيرًا في المعادلة الوطنية، وهي المساحة التي يبدو أن الحلبوسي مستعد لملئها.
وفي ظل غياب المرجعية الموحدة للقوى السنية، فإن شخصية بحجم رئيس البرلمان السابق، تملك تجربة إدارية وتشريعية وسياسية، قد تكون الخيار الأنسب لإعادة إنتاج زعامة سنية مؤثرة في المرحلة المقبلة. كما أن موقعه المتقدم في المشهد السياسي الوطني، وعلاقاته المتوازنة مع قوى داخلية وخارجية، تجعله مرشحًا قويًا لتشكيل قطب سني فاعل، قادر على التفاوض من موقع قوة في التحالفات الكبرى، سواء لتشكيل الحكومة أو توزيع المناصب السيادية بعد الانتخابات. هذه المتغيرات من شأنها أن تعيد رسم التوازن داخل البيت السني، وتمنح الحلبوسي موقعًا محوريًا في معادلة الحكم المقبلة.
وقرار تبرئته، الذي جاء بعد مصادقة محكمة التمييز الاتحادية، ليس مجرد حدث قانوني، بل يمثل منعطفًا سياسيًا كبيرًا سيعيد خلط أوراق اللعبة السياسية، خاصة في ظل الانقسامات المتزايدة داخل “الإطار التنسيقي” الشيعي، وغياب التيار الصدري عن المشهد الانتخابي، ما يجعل من الحلبوسي رقماً صعبًا في معادلة ما بعد الانتخابات.
وقرار القضاء العراقي بردّ الشكاوى ضده وإلغاء التهم الموجهة إليه، بعد اتهامات بالتزوير قدمها النائب ليث الدليمي، يعيد له الاعتبار السياسي ويمنحه غطاءً قانونيًا قويًا للعودة إلى رئاسة البرلمان، إن قرر ذلك. هذا ما أكده عدد من قيادات حزب “تقدم”، الذين أعلنوا أن رئيس البرلمان السابق بات قانونياً المرشح الأول للكتلة في العاصمة بغداد، وسيكون له حظوظ كبيرة في الفوز بمنصب رئيس البرلمان مجددًا في الدورة المقبلة.
وعلى الرغم من أن القرار النهائي بشأن ترشحه مجددًا لم يُحسم بعد، إلا أن معطيات الساحة تشير إلى أن الحلبوسي يدرس العودة بقوة، مدعومًا بكتلة سياسية ما زالت متماسكة نسبيًا، وبرصيد من العلاقات الإقليمية والدولية التي عززت من حضوره خلال السنوات الماضية.
وتبرئة الحلبوسي تأتي في وقت يعاني فيه “الإطار التنسيقي”، وهو التحالف الشيعي الحاكم، من انقسامات داخلية واضحة، في ظل صراع خفي على قيادة التحالف والمرشحين للمرحلة المقبلة، إضافة إلى الغموض الذي خلفه إعلان مقتدى الصدر عدم خوض الانتخابات المقبلة، ما يُحدث فراغًا سياسيًا كبيرًا داخل البيت الشيعي.
هذا الانقسام قد يمنحه فرصة ذهبية للعودة إلى رئاسة البرلمان، إذ سيحتاج التحالف الشيعي إلى دعم كتلة سنية قوية لتمرير مرشح لرئاسة الوزراء، وهو ما قد يجعل من “تقدم” وحلفائه رقماً صعبًا في معادلة اختيار الرئاسات الثلاث.
ورئيس البرلمان السابق، الذي سبق أن شغل منصب محافظ الأنبار، استطاع خلال السنوات الماضية بناء شبكة علاقات واسعة، داخليًا وخارجيًا، جعلته شخصية محورية في أي تفاهم سياسي. تحالفه مع أطراف كردية وشيعية معتدلة في السنوات السابقة يمنحه أرضية صلبة للعودة، لا سيما مع وجود مؤشرات على تقارب جديد بين بعض الكتل السنية والكردية، استعدادًا للانتخابات المقبلة.

ومن المتوقع أن يلعب الحلبوسي دورًا محوريًا في الانتخابات البرلمانية المقررة في 11 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. ووفقاً لمراقبين، فإن زعيم “تقدم” سيكون في طليعة المرشحين في بغداد، مع إمكانيات كبيرة لحصد عدد مؤثر من المقاعد، لا سيما في المناطق السنية الغربية، حيث ما زال يتمتع بشعبية واضحة.
وبحسب أرقام مفوضية الانتخابات، فإن نحو 30 مليون عراقي يحق لهم التصويت، في دورة يُتوقع أن تكون من الأكثر تعقيدًا منذ سنوات، مع اشتداد المنافسة، وتزايد الحديث عن تدخلات خارجية، وانتشار المال السياسي، وصعوبات تواجه المستقلين في الوصول إلى البرلمان.
ولا يمكن فصل تبرئة الحلبوسي وتداعياتها عن السياق الإقليمي والدولي. إذ تُمارس الولايات المتحدة ضغوطاً متزايدة لإنهاء النفوذ الإيراني في العراق، والحد من سطوة الميليشيات المسلحة، وهو توجه قد يدعم شخصيات سياسية “وسطية” تحظى بثقة دولية وإقليمية، مثل رئيس البرلمان السابق.
كما أن دولًا عربية فاعلة، مثل الإمارات والسعودية، ما زالت تتابع الوضع في العراق عن كثب، وتبحث عن حلفاء سياسيين معتدلين يمكنهم المساهمة في استقرار البلاد، وتوجيهها نحو مسارات أكثر توازناً. في هذا السياق، فإن عودة الحلبوسي إلى المشهد البرلماني قد تحظى بدعم إقليمي واضح، لا سيما إذا تبنّى خطاباً إصلاحيًا ومعتدلاً في المرحلة المقبلة.
وفي حال قرر العودة فعليًا إلى رئاسة البرلمان، فسيواجه تحديات كبيرة، على رأسها الحاجة إلى بناء تحالف واسع في ظل التوازنات الهشة داخل البرلمان المقبل. لكن المعطيات تشير إلى أنه قد يستخدم تبرئته كمنصة لاستعادة دوره القيادي، سواء داخل البرلمان أو في المفاوضات حول تشكيل الحكومة.
كما أن دخوله على خط التوازنات مجددًا قد يعيد رسم خطوط اللعبة السياسية، خصوصًا إذا ما نجح في تجميع القوى السنية تحت مظلته، أو التحالف مع أطراف من الإطار التنسيقي أو من القوى الكردية، ما يجعل منه رقماً صعبًا لا يمكن تجاهله في أي تسوية سياسية قادمة.