سياسة

بغداد بين طرفين.. استراتيجيات التوازن السياسي تواجه اختباراً جديداً


 نشرت مجلة “ذي أتلانتيك” الأميركية تقريراً حول موقع العراق في خضم التوازنات الإقليمية المعقدة، بين واشنطن وطهران رغم مظاهر الازدهار والاستقرار النسبي التي يعيشها البلد منذ سنوات.

وجاء في التقرير الأميركي أنه ولأكثر من ثلاث سنوات، نجح العراق في البقاء بعيداً عن عناوين الأخبار، فبينما تعصف الحروب والانتفاضات بمناطق أخرى من الشرق الأوسط، ظلّت بغداد — التي كان اسمها يوماً مرادفاً للتفجيرات الانتحارية والاقتتال الطائفي — في منأى عن الفوضى. الطريق السريع المؤدي من مطار العاصمة الدولي، الذي كان يُعرف في سنوات ما بعد الغزو الأميركي عام 2003 بأنه “الأخطر في العالم”، بات اليوم يصطف على جانبيه عدد متزايد من الأبراج السكنية والمجمعات التجارية، فيما خفّف تشييد الجسور والأنفاق الجديدة من زحمة السير الخانقة التي لطالما ميّزت العاصمة.

غير أن كثيراً من العراقيين يخشون ألا يدوم هذا الهدوء طويلاً، فإيران، التي تلقت ضربات قاسية من الولايات المتحدة وإسرائيل خلال العام الماضي، فقدت معظم ركائز ما كان يُعرف بـ”محور المقاومة”. وبات العراق اليوم في موقع لا يُحسد عليه، إذ يشكل آخر حليف إقليمي رئيسي للجمهورية الإسلامية، ورافعة اقتصادية أساسية لنظامها المحاصر بالعقوبات ونقص السيولة. ومع ذلك، لم يبدِ الرئيس الأميركي دونالد ترامب أي تعليق علني على هذه العلاقة الحساسة، رغم استمرار إدارته في فرض العقوبات لخنق الاقتصاد الإيراني.

ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية في 11 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، يحاول رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أن يقدّم صورة مختلفة عن العراق، بوصفه بلداً يسير نحو الازدهار والاستقرار. ويرفع السوداني في حملته شعار “الرافعة” رمزاً لحركة البناء والتشييد التي شهدتها البلاد في الأعوام الأخيرة، متباهياً بتوظيف أكثر من مليون شخص في القطاع العام خلال عام واحد، في محاولة لتخفيف البطالة. لكن هذا الحل السريع، كما يشير مراقبون، جعل الدولة تواجه خطر الإفلاس بسبب تضخم فاتورة الأجور واعتماد الاقتصاد المفرط على إيرادات النفط.

الازدهار الاقتصادي النسبي رافقه أيضاً تصاعد في الفساد، بلغ ذروته فيما عُرف بـ”سرقة القرن” التي اختفى خلالها نحو 2.5 مليار دولار من أموال الدولة. ويرى كثير من العراقيين أن الفساد المنهجي صار وسيلة لشراء الولاءات السياسية وامتصاص الغضب الشعبي مؤقتاً، من دون أن يضمن استقراراً دائماً، خصوصاً في حال تراجع أسعار النفط العالمية.

أما في المشهد الأمني، فقد اتبع السوداني نهجاً مغايراً لسلفه مصطفى الكاظمي الذي حاول كبح نفوذ الميليشيات المسلحة. فبدلاً من المواجهة، اختار السوداني استيعاب تلك الفصائل ودمجها في مؤسسات الدولة. ومنح “شركة المهندس العامة” المرتبطة بالحشد الشعبي والخاضعة لعقوبات أميركية، عقوداً استراتيجية لصيانة وتوسيع شبكة الألياف البصرية، ما أثار قلقاً بشأن وصولها إلى بيانات حساسة. كما حاول تمرير عقد لتشغيل شبكة الجيل الخامس (5G) عبر كونسورتيوم تسيطر عليه هذه الجماعات، قبل أن يوقف القضاء الصفقة مؤقتاً لدواعٍ تتعلق بالأمن القومي.

وتصف المجلة الأميركية السوداني بأنه سياسي براغماتي يحاول الموازنة بين القوى المتناقضة في بلاده؛ فهو يدرك أن إيران تمثل عمقاً استراتيجياً ودينياً لا يمكن تجاوزه، بينما تبقى الولايات المتحدة الشريك الاقتصادي والعسكري الأهم. ومع ذلك، فإن العراق يظل عالقاً بين هذين النفوذين المتصارعين، ما يجعله عرضة للاهتزاز كلما تصاعد التوتر بين واشنطن وطهران.

وفي ختام التقرير، تشير ذي أتلانتيك إلى أن العراق يعيش اليوم على “خط توازن دقيق”، يحاول من خلاله الحفاظ على الاستقرار والانتعاش الاقتصادي، بينما يواجه خطر التحول مجدداً إلى ساحة صراع بالوكالة بين الولايات المتحدة وإيران، فالبلد الذي نهض من رماد الحروب ما زال أسير معادلة معقدة، لا تسمح له بالتحرر الكامل من ظل جيرانه الأقوياء ولا من إرث الغزو الذي غيّر وجهه قبل عقدين.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى