بعد صدمات القتال.. جنود إسرائيليون يتلقون علاجا نفسيا بالأفاعي والحيوانات
يعيش كثير من الجنود الإسرائيليين صراعا صامتا يمتد إلى ما بعد ميادين القتال.
فمنذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، قبل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، الشهر الماضي، تتكشف في إسرائيل أزمة متصاعدة في الصحة النفسية بين الجنود المشاركين في القتال.
ومع طول أمد الحرب وتعدد جبهاتها، وجد آلاف الجنود أنفسهم عالقين بين ماضٍ دموي لا يمكن تجاوزه وحاضر يعجزون عن التكيف معه. بحسب تقرير نشرته وكالة أسوشيتد برس.
في مزرعة صغيرة بكيبوتس سدوت يام، وسط إسرائيل، يجلس جندي سابق يحتضن أفعى باردة الجلد تلتف حول ذراعيه. يتنفس بعمق ويغلق عينيه، كأنما وجد في ملمسها القاسي طمأنينة غائبة.
مرّ ما يقرب من 18 شهرا منذ أن ترك هذا الجندي الجيش بعد مشاركته في حرب غزة، ولم تتوقف نوبات الهلع والذكريات المؤلمة.
أصيب في هجوم صاروخي شنته حماس على قاعدته العسكرية، وقال إن اثنين من أصدقائه – وهما أيضا جنديان في العشرينيات من العمر – انتحرا. مشيرا إلى أن هذه المزرعة المخصصة لمساعدة الجنود كانت بمثابة “شريان حياة”.
قال الرقيب أول البالغ من العمر 27 عاما، والذي وصف التجربة بأنها مرهقة: “لا يهم إن مرت طائرة أو طائرة بدون طيار أو إن كان أحدهم يصرخ… لأنني هنا مع الثعبان الآن”.
ومثل غيره من الجنود الذين تحدثوا إلى وكالة أسوشيتد برس، أصرّ على عدم الكشف عن هويته لمناقشة مسائل الصحة النفسية الخاصة.
آلاف الجنود تحت الصدمة
لم تعد قصة هذا الجندي استثناء. فوفق بيانات وزارة الدفاع الإسرائيلية، يعاني نحو 11 ألف جندي من “إصابات نفسية” منذ اندلاع الحرب، وهو رقم غير مسبوق يمثل أكثر من ثلث إجمالي 31.000 جندي مصاب بمثل هذه الإصابات في جميع الحروب التي خاضتها إسرائيل مجتمعة منذ تأسيسها قبل ثمانين عاما.
وتشمل هذه الحالات اضطراب ما بعد الصدمة، والقلق، والاكتئاب، وغيرها من الاضطرابات النفسية المرتبطة بالقتال.
انتحار
كما ارتفعت حالات الانتحار بشكل كبير. ففي العقد الذي سبق الحرب، بلغ متوسط عدد الجنود الذين انتحروا في الجيش 13 جنديا سنويا.
ومنذ الحرب، ارتفع العدد، حيث توفي 21 جنديا منتحرا العام الماضي، وفقا للجيش.
ولا تشمل هذه الأرقام – التي تشمل القوات العاملة والاحتياط – الجنود الذين انتحروا بعد تركهم الجيش.
وأفاد تقرير نشره الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي، الشهر الماضي، أن 279 جنديا إضافيا حاولوا الانتحار في الفترة من يناير/كانون الثاني 2024 إلى يوليو/تموز 2025 لكنهم نجوا.
وقالت ليمور لوريا، نائبة المدير العام ورئيسة قسم إعادة التأهيل بوزارة الدفاع: “هناك الآن فهم حقيقي بأن للإصابات النفسية عواقب وخيمة وأن العلاج ضروري وعملي”.
وأضافت “نشهد اختلافا بين الأجيال. فبينما لم يطلب العديد من قدامى المحاربين الجرحى من الحروب السابقة المساعدة قط، فإن جرحى اليوم يستجيبون بشكل مختلف تماما”.
من جهته، يسعى الجيش جاهدا لمعالجة الأزمة، حيث حشد مئات من ضباط الصحة النفسية. وأرسل خبراء إلى الخطوط الأمامية لمساعدة الجنود أثناء القتال، وأنشأ خطا ساخنا، وقدم جلسات علاج جماعي للجنود بعد مغادرتهم الخدمة.
ومع ذلك، يحذر الخبراء من أن إسرائيل ليست مجهزة بعد للتعامل مع حجم هذه الأزمة، وهي فجوة أقرت بها إدارة إعادة التأهيل، قائلة إنها تؤثر على النظام الصحي الوطني بأكمله.
عواقب وخيمة
تولي فلينت، أخصائي علاج الصدمات النفسية الذي قدم استشارات لمئات الجنود الإسرائيليين، يشير إلى أن طول وشدة هذه الحرب على جبهات متعددة، ومع استدعاء عشرات الآلاف من جنود الخدمة الفعلية والاحتياط لعمليات نشر متكررة، لم يسمح للجنود بالتعافي بشكل صحيح، مما قد يكون له عواقب طويلة المدى على البلاد.
وقال: “إذا لم يُعالج هؤلاء، فإنهم سيفقدون إمكاناتهم في التطور الشخصي والاجتماعي، وقد يصبحون عبئا على أنفسهم وعائلاتهم ومجتمعهم”.
وذكر ستة جنود لوكالة أسوشيتد برس، بالإضافة إلى أخصائيين نفسيين عالجوا مقاتلين، أنهم افتقروا إلى الهدف، وواجهوا صعوبة في التركيز أو بناء علاقات، ومع استمرار الحرب، سيطر عليهم شعور باليأس.
وأشار فلينت إلى أن بعضهم عانى أيضا مما أسماه “إصابة معنوية”.

حيوانات للشفاء
تُعد مزرعة Back2Life في سدوت يام واحدة من المبادرات التي نشأت لمساعدة الجنود على التعافي.
أسسها آسي نافي تخليدا لذكرى صديقه الجندي السابق أمير (داني) ياردناي الذي عانى اضطراب ما بعد الصدمة بعد حرب 2014 وانتحر العام الماضي.
وتحولت المزرعة إلى واحة خضراء لعشرات المحاربين القدامى، حيث يمارسون العلاج بمساعدة الحيوانات، ويجدون في الاعتناء بها سبيلا لاستعادة التوازن الداخلي.
يقول عالم النفس غاي فلومان، المستشار في المزرعة: “العمل مع الحيوانات يمنح الجنود شعورا بالأمان والاتصال بالحياة، ويساعدهم على التصالح مع ذاكرتهم المؤلمة.”
ويشير الجندي السابق البالغ من العمر 27 عاما، والذي عمل فني راديو لمدة ستة أشهر تقريبا في بداية الحرب، إلى أنه جاء إلى المزرعة في وقت سابق من هذا العام لأنه شعر بالضياع.
وصمة ما زالت قائمة
على الرغم من الجهود الرسمية، لا تزال الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالعلاج النفسي تشكل عائقا أمام كثير من الجنود.
يقول أحدهم، يبلغ 31 عاما، عاد من غزة والضفة الغربية بعد عام من الخدمة: “جسدي هنا، لكن عقلي ما زال هناك… كل شيء حولي بدا غريبا”.
ويضيف أنه للمرة الأولى شعر بالارتياح لطلب المساعدة، بعدما ظل لسنوات يخشى نظرة المجتمع.
وتؤكد لوريا أن كسر هذه الوصمة “أولوية قصوى”، مشيرة إلى حملات توعوية ومبادرات جديدة تشمل الرياضات العلاجية والمزارع المفتوحة للمحاربين الشباب.
رائحة الموت
أما أحد جنود الاحتياط، الذي كان مكلفا بجمع الجثث بعد هجوم 7 أكتوبر، فقال إن أكثر ما يطارده هو رائحة الموت التي التصقت بذاكرته: “صرت أشم رائحة الجثث في كل مكان… حتى أثناء رعاية طفلي”.
وبصفته معالجا نفسيا، أدرك إصابته باضطراب ما بعد الصدمة وسعى للعلاج، ثم انضم لاحقا إلى الجهود لمساعدة آخرين. ويضيف “عندما يخبر القائد جنوده أن طلب المساعدة أمر مقبول، يسقط الحاجز النفسي فورا”.







