سياسة

بايدن وسوريا.. غموض أم ارتباك؟


لا يبدو حتى الآن أن المسألة السورية تحظى بأولوية أو بدرجة عالية من اهتمام إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن.

 رغم أنها تصنّف ضمن أكثر المحن صعوبة وخطورة خلال العقود الأخيرة من حيث حجم مأساتها البشرية، ومن حيث مخاطرها المحتملة على السلم الإقليمي والدولي. عدم اهتمام بايدن وإدارته يعود في كثير من أسبابه إلى تقديم ما يعتبرونه “مصالح عاجلة” لبلادهم على ما سواها في ملفات المنطقة المتزاحمة، وهذا أمر لا يغيب عن بال أحد كونه يمثل أولوية الأولويات عند صانع القرار السياسي والسيادي لأي دولة.

المعاناة الإنسانية التي تتفاقم على السوريين في مختلف أماكن وجودهم، في الداخل والخارج، تنبئ بدوامها طالما استمرت أسبابها وعلى رأسها غياب الإرادة لدى مختلف اللاعبين لبلورة سياق سياسي يمكن من خلاله السير نحو تفاهمات ومقاربات جديدة وعملية تلبي وتحقق مصالح الجميع وتصل في النهاية بسوريا، دولة وشعباً، إلى مرافئ الأمن والأمان والاستقرار واستعادة العافية على مختلف القطاعات.

الوجع السوري بات مركّباً ولم يعد يقتصر على جانب دون غيره؛ فسوريا الدولة تواجه تحديات مصيرية في ظل أطماع خارجية إقليمية تهدد سيادتها ووحدتها واستقلالها، وما تبقى من قطاعاتها ومؤسساتها العاملة يترنح تحت وطأة عقوبات واستنزاف متواصل، أما شعبها فواقع تحت سطوة الحاجة الملحة لمواجهة متطلبات الوجود والحياة، كل ذلك من شأنه رفع إشارات الاستفهام في وجه ادعاءات الإدارة الأمريكية الديمقراطية وشعاراتها حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإذا لم تكن على استعداد للمشاركة والمساهمة في توفير حلول نهائية وحاسمة للمسألة السورية؛ فعليها، كحد أدنى، عدم اتخاذ خطوات وعدم تبني سياسات تعرقل الحلول التي تسعى إلى إنتاجها بعض الجهات العربية، الرامية إلى طي صفحة الحرب في سوريا وعلى سوريا، وتمكينها من استعادة دورها، وتعافيها من مخلفات عشرية سوداء أتت على الأخضر واليابس فيها، ووضعتها على مسارات مجهولة المصير.

 لماذا تتجاهل إدارة بايدن هذه الحقائق بأبعادها الإنسانية والأخلاقية والسياسية؟ ألا تدرك الإدارة الأمريكية أهمية سوريا الجيوسياسية والاستراتيجية للأمن والسلم الإقليمي والدولي؟ هل يمكن أن تشهد المنطقة استقراراً دون أن تكون سوريا عنواناً له؟ ما هي الدوافع التي حدت بواشنطن وبعض حلفائها إلى عرقلة التوجه الإماراتي بشأن سوريا؟ السؤال الأكثر بلاغة: ما هي المصلحة الأمريكية في تجاهله؟

في عملية التفاضل بين الارتباك والغموض الأمريكي تجاه سوريا؛ تبدو الكفة راجحة لجهة الارتباك أكثر، فالغموض في كثير من الأحيان يتطلب الصمت؛ وهو ما لم يحدث لدى إدارة بايدن بشأن سوريا، والغموض يعكس أحيانا التزاماً معيناً وهو ما لم يتضح من الجانب الأمريكي، وفي كلا الحالتين يكون الغموض بحد ذاته موقفاً يترقب الفرصة المناسبة لطرح المطالب والشروط، أما الارتباك فينمّ عن عدم وجود تصورات منطقية، ويعكس تشوشاً في الرؤية الاستراتيجية للحدث أو للقضية كما هو الحال بالنسبة لواشنطن حيال سوريا.

هل يعلم الرئيس بايدن أن تأخره في معالجة الملف السوري أو بالأحرى تأخره في الانخراط لمعالجته ربما يؤدي إلى تجاهل بقية اللاعبين المنافسين لبلاده لمحاولاته لاحقا؟ ألا يدرك الجانب الأمريكي أن التحولات الحاصلة في المشهدين الإقليمي والدولي، وسياسات إدارته الحالية من شأنها أن تدفع الكثير من العواصم إلى سلوك خيارات مناقضة ومغايرة؟

سوريا تقع في قلب الجانب الأكثر تحدياً للولايات المتحدة الأمريكية من الناحية الاستراتيجية، فعلاقاتها راسخة مع الصين وروسيا، وبالتالي مع جميع مكونات وتحالفات هذه الكتلة السياسية والاقتصادية، وأثبتت جميع المنعطفات والوقائع والمواجهات على المسرح الدولي خلال السنوات العشر المنصرمة اصطفاف هذه القوى إلى جانب سوريا لهدفين؛ الأول تأكيد إرادة القوة السياسية عبر استخدام الفيتو عشرات المرات في مجلس الأمن حين يتعلق الأمر بالشأن السوري، والثاني ترسيخ مفهوم الشراكة كأقطاب دوليين وفاعلين في عملية إيجاد الحلول للقضايا الدولية ومن بينها سوريا.

قد يبدو المشهد شديد التعقيد في ثنايا هذه المقاربة؛ فعلاقات سوريا مع بكين وموسكو تحتمل وجهين؛ الأول فيه الفائدة حيث تشكلان ظلاً وضمانة لفرملة أي اندفاعة أمريكية نحو التفرد بالحل أو فرض حل لا يتناسب مع مصالحهما ومصالح سوريا دولة وشعباً، والوجه الثاني قاتم غير مبشّر على المدى المنظور إذا ما تعلّق الأمر بالمناكفات المحتملة بين الجانبين مستقبلاً، والتي قد تنعكس سلباً على مسار التسوية السورية وتؤدي إلى تمديد فترة مراوحتها في مكانها واستمرارها. ليس من شك في أن الدور الأمريكي مهم وحاسم في وضع حد للمأساة السورية؛ أهميته تنبع من تأثيره على مختلف الأطراف الداخلية والخارجية، وخصوصيته تكمن في القدرة على إدارة الملف مع بقية اللاعبين المعنيين به بشكل مباشر على قاعدة المصالح المشتركة وضمانها لذلك.

 عاصرت، بل عايشت الأزمة السورية ثلاث زعامات للبيت الأبيض من أوباما الديمقراطي إلى ترامب الجمهوري وصولاً إلى بايدن الديمقراطي، وبدا جلياً أن الخطوط العامة لنهجهم أوضحت أنهم عملوا على إدارة الأزمة واستثمارها وليس معالجتها ووضع حد لها ولتداعياتها وتفاقماتها الإنسانية والسياسية، وهذا النهج يؤكد أن سيد البيت الأبيض أيّاً يكن انتماؤه الحزبي لا يخرج عن إطار الاستراتيجيات العامة التي تحفظ مصالح بلاده وتصونها مع وجود هوامش لشخصية الرئيس تتيح له إبراز مهاراته الفردية عبر بعض الاجتهادات الخاصة تجاه حدث أو قضية بعينها ضمن الإطار العام للمؤسسات الرسمية التي ترسم السياسات الكبرى.

سوريا اليوم، وبعد هذه العشرية السوداء، أحوج ما تكون لدور أشقائها العرب المخلصين لها ولانتمائها ولشعبها، خاصة الذين برهنوا على استقلالية قرارهم وأصالة قيمهم بوقوفهم إلى جانبها قولاً وعملاً، وفي مقدمتهم دولة الإمارات العربية المتحدة التي بلورت مقاربات سياسية ودبلوماسية وإنسانية متوازنة أحدثت صدى إيجابياً لدى معظم اللاعبين على مختلف مواقعهم، وترجمتها على أرض الواقع، انسجاماً مع انتمائها ووفائها، وأصبحت صالحة للبناء عليها كخارطة طريق متكاملة لطي صفحة الأزمة السورية نهائيا.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى