انكشاف الدور التركي المريب
اعتمد أردوغان منذ توليه الحكم على اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة لعرقلة إقرار أي تشريع يعترف بالمذابح التركية وإبادة الأرمن، واستمر مع حزبه العدالة والتنمية منذ عام 2002م في توسيع التعاون مع إسرائيل.
ورغم اندلاع الانتفاضة الثانية ضد الاحتلال الإسرائيلي وادعائه مناصرة القضية الفلسطينية، توترت العلاقات بين البلدين عام 2010م، لكن هذا التوتر لم يمتد إلى اتفاقيات بيع الأسلحة والتبادل التجاري، وفي عام 2016م صادق البرلمان التركي على اتفاق بين أنقرة وتل أبيب على تطبيع علاقات البلدين وتبادل السفراء.
يعود تاريخ العلاقات التركية الإسرائيلية إلى بدايات تأسيس الكيان الصهيوني حيث كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف رسمياً بإسرائيل عام 1949م، ومنذ ذلك الحين أخذت العلاقات الثنائية تتطور بشكل مضطرد على الصعد كافة، مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وما يجري مجرد مناورات سياسية ودغدغة للمشاعر التي يجيدها أردوغان باسم نصرة القضية الفلسطينية، التي أصبحت واضحة وأنها لا تقترن بالأفعال الحقيقية الملموسة لديه.
وزادت تركيا من تعاونها العسكري مع إسرائيل منذ احتلالها لشمال جزيرة قبرص عام 1978م، والذي أدى إلى عقوبات أمريكية أوروبية على قطاعها العسكري واعتمدت أنقرة آنذاك على الجانب الإسرائيلي في تحديث الجيش التركي وبعض الآليات الحربية وصولاً للاتفاق الذي يقضي بتبادل الطيارين العسكريين بينهما وما جرى من مهاترات لم تؤثر على طبيعة هذه الاتفاقيات.
وأفاد معهد استوكهولم للسلام عام 2018م أن تركيا تأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية في احتضان مصانع الجيش الإسرائيلي حيث وقعت إسرائيل عام 2006م اتفاقية عسكرية تقوم بموجبها شركات عسكرية إسرائيلية بتأسيس مصانع على الأراضي التركية بهدف تحديث طائرات إف 15 وإف 16 في عقد بلغت قيمته حوالي 980 مليون دولار.
وفي عام 2008م فازت الصناعات العسكرية الإسرائيلية بعقد قيمته مليار و100 مليون دولار لتطوير 210 دبابات من طراز إبرامز إم -60 ومنذ عام 2009م يقوم مصنع إسرائيلي تركي مشترك لتصنيع الطائرات بدون طيار في محافظة أزمير تحصل إسرائيل على 50بالمئة من إنتاجه، والنصف الآخر يذهب لتركيا، وهناك تقديرات لدى بعض مراكز الأبحاث الغربية بأن الطائرات المسيرة التي تراقب أجواء غزة وجنوب لبنان جاءت جميعها من مصنع أزمير لطائرات الدرونز.
وما يؤكد هذا التعاون في مجال الطائرات المسيرة هو نجاح الجيش الوطني الليبي في إسقاط ثلاث طائرات مسيرة تركية تأكد بعد ذلك أنها من المصنع الإسرائيلي في تركيا، وبعد أن كشف الجيش الليبي أن الطائرات التي أهدتها تركيا لميليشيات السراج التي تصنعها شركة إسرائيلية في تركيا، ذات مواصفات تكتيكية تهاوت في الفضاء الليبي.
وعلى امتداد السنوات المنصرمة تباينت طبيعة تلك العلاقات من حيث تناميها وفتورها، إلا أنها ظلت متينة، واستمرت الحكومة التركية بعلاقاتها الوثيقة مع تل أبيب، وبات الطرفان على استعداد لتلافي أية أزمة تقع بينهما مقابل بقائها، لما لتركيا من أهمية استراتيجية بالنسبة لإسرائيل، لإحداث الفتن والفوضى وبغية تدمير المنطقة وتقسيمها.
وهنالك عدة أسباب للرغبة بتحسين العلاقات بينهما، أبرزها الأزمة بين واشنطن وأنقرة التي أثرت بشكل كبير على الداخل التركي، وتطورت العلاقة بعد دخول تركيا على خط ملف غزة بواجهة قطرية وبلوغ التسوية القطرية الإسرائيلية مراحل مشبوهة وهي بخلفية تركية طبعاً إضافة إلى أنبوب شرق المتوسط للغاز، وباعتبار الطرفين في الناتو، وإسرائيل حليفة له من خارج أوروبا.
وبذلك أصبحت تل أبيب أكبر شريك عسكري مع أنقرة في مجالات توريدات السلاح لوجود هواجس مشتركة لديهما جراء الأوضاع المتفاقمة وغير المستقرة في المنطقة، وتركزت الجهود بينهما على تكثيف التحركات السياسية ووضع سيناريوهات مستقبلية للهيمنة، لدرجة أن إسرائيل وصفت طبيعة علاقاتها مع حليفها التركي بالحميمية والاستراتيجية.
وبعد علاقات دافئة مع سوريا انكشف الدور التركي المفاجئ، وانقلبت عليها أنقرة بغتة واتضحت أدوارها المريبة في ليبيا وفي المنطقة عموماً، وتمت الإشارة إلى عودة الحلم العثماني لأذهان المسؤولين الأتراك، عدا عن وجود نوايا جاهزة لتقديم النموذج التركي الإخواني كنموذج للإسلام السياسي المعتدل بدلاً من نموذج القاعدة، في إشارة للتحول إلى حقبة جديدة تكون فيها تركيا الوكيل الحصري لنموذج إسلام سياسي.
وفي ظل تنامي أحلام العثمانية الجديدة ومحاولة أردوغان بعث إرث الخلافة القديم، عبر تحالفه مع جماعات الإسلام السياسي، فإنه لا يكف عن مناوراته المتكررة للبحث في دفاتر التاريخ المهترئة، ومن ثم البحث عن امتداداته الجغرافية التي كانت تخضع لنفوذه والأصل التاريخي والبشري فيها.
وكما الحال في ليبيا وسوريا والعراق إذ أن طموحه الوحيد ألا تبقى تركيا محصورة داخل مساحة حدود 780 ألف كيلومتر مربع فقد تكون مصراتة وحلب وشبه جزيرة القرم خارج الحدود الفعلية، ولكن يزعم أردوغان أنها داخل الحدود العاطفية والقلبية والجسدية للجمهورية التركية، وفي هذا السياق صرح مراراً وفي مواقف استعراضية بقوله: ” سنتصدى لمن يحاول تحديد تاريخ بلادنا بنحو 90 عاماً”.
ما هذا الهراء وتلك الخزعبلات إنها أضغاث أحلام وعبثية وبعيدة عن الواقعية والعقلانية؟، وهل نسي أردوغان حقيقة أجداده العثمانيين الذين كانوا مفتاح احتلال فلسطين؟ بعدما وافقت الدولة العثمانية على تخليها عن فلسطين لبريطانيا عام 1920م، لتعلن بعدها لندن تسليم فلسطين لليهود دون أي تحرك من الأتراك، وإذا كان أردوغان يدافع حقاً عن عروبة فلسطين وعن المسجد الأقصى، فما زالت علاقاته مع إسرائيل قائمة وراسخة، وتبدو واضحة، والعداوة المزعومة رخوة وغير قابلة لأن تكون حقيقية، بل يتخذ هذه العلاقة موئلاً له لتحقيق مطامعه في المنطقة العربية.
نقلا عن العين الإخبارية