سياسة

انفجار لبنان.. هل ستُكشَف الحقيقة وطنيًا أم دوليًا؟


تصاعدت في لبنان مطالب شعبية وسياسية وبرلمانية فور وقوع الحادث المفجع في مرفأ بيروت بضرورة تشكيل لجنة تحقيق دولية، أو عربية من قضاة ومحققين يتمتعون بالنزاهة والحرفية والحيادية لكشف الملابسات الكارثية للحادث، وتحديد المسؤولين عن كافة الأسباب التي أدت لوقوعه وتحقيق العدالة في نهاية المطاف.

وعزت كافة المطالبات المتقدمة بضرورة الاستعانة بلجان دولية إلى فقدان الثقة في اللجان الوطنية، فضلا عن حجم الحادث، وأن المشتبه في مسؤولياتهم المختلفة عن وقوعه لا يزال معظمهم يشغلون مناصب رسمية رفيعة في البلاد، وقد يجدون ملاذا للإفلات من العقاب بسبب علاقاتهم الوطيدة بأركان النظام السياسي في لبنان.

يدلل اللبنانيون المطالبون بتشكيل لجان دولية البواعث التي لا تجعلهم يثقون في المؤسسات الوطنية اللبنانية، ويدللون علي ذلك بأن مسألة سلامة التخزين لعبوات نيترات الأمونيوم الضخمة التي تسببت في الحادث المفجع عُرضت على عدة لجان وقضاة بدون أي إجراء لإصدار أمر بنقل هذه المادة شديدة القابلية للاشتعال أو التخلص منه، وأن الإهمال الحكومي صار ديدنًا يُطبق علي أداء كافة المؤسسات و الهيئات الحكومية في ذلك البلد المكلوم، وأن ذات  المؤسسات لم تكن حريصة علي حياة المواطن اللبناني فيستحيل الوثوق بها، وذات المطالب عززها الرئيس الفرنسي ماكرون أثناء زيارته التضامنية للشعب اللبناني حيث صرح: “يجب إجراء تحقيق دولي مفتوح وشفاف للحيلولة دون إخفاء الأمور” .

يعترف القانون الدولي بحق الضحايا وأسرهم في معرفة الحقيقة، وبالمقابل يقع على عاتق الدول مسؤولية التحري عن تلك الحقيق ونشرها بشفافية، ويهدف كشف الحقيقة لتحقيق أمرين أساسيين، الأول: أن الحقيقة ضرورية لاحترام كرامة الضحايا وإعادتها إليهم، والثاني: أن المصلحة الجماعية للمجتمع تتطلب فهم حقيقة ما جري حتى يستطيع المجتمع الذي تشظي بفعل التوجهات الطائفية أو الحزبية أن يتصالح ويلملم أشلاءه ويمنع تكرار مثل هذه الانتهاكات.

لقد شهدت حقبة الثمانينيات والتسعينيات في القرن الماضي، تطور آلية جديدة للسعي إلى تحقيق المساءلة والمصالحة، وهذه الآلية نشأت أساساً بهدف التحري عن الحقيقة والكشف عنها، وهي لجان الحقيقة و التي يشار إليها بعدة أسماء مثل :لجان التحقيق أو لجان التحري، و هي أجهزة رسمية أو شبه رسمية يتم تشكيلها لفترة محددة من الوقت ، عادة للتحري عن انتهاكات لحقوق الإنسان وقعت خلال فترة سابقة ونشر تقرير عن النتائج التي توصلت إليها، وشكلت  لجان في عدد كبير من الدول إلا أنها انتشرت بشكل خاص في أمريكا اللاتينية أثناء مخاض الدمقرطة الذي شهدته معظم القارة اللاتينية، واللجان المعروفة على نطاق واسع هي اللجان التي مارست عملها في شيلي، والأرجنتين، والسلفادور، وجنوب أفريقيا.

إن إثبات الحقيقة بصورة رسمية ليس كإثباتها في تقرير أكاديمي، أو في تقرير قامت بتجميعه منظمة واحدة، أو عدة منظمات غير حكومية، أياً كانت قيمة هذه التقارير، واعتراف الدولة رسمياً بالحقيقة يعني أن عليها القبول بأية مسئوليات سياسية وأدبية يمكن أن تنشأ عن ذلك، وهنا لايزال التصريح الرسمي  الفوري و المهم لرئيس الوزراء اللبناني يصدح عاليا: “ستطال المحاسبة كل  المسؤولين المقصرين منذ عام 2013 وحتي وقوع الحادث الأليم”، ويقترن إقتران الدولة بالحقيقة بالتزامات قانونية محددة مثل واجب تقديم الجبر عن المعاناة التي لحقت بالضحايا.

 جلي أن لجان تقصي الحقائق يجب أن تحافظ على الأدلة على الأفعال المرتكبة، وهذا يعني حماية الأدلة الظرفية والأدلة الوثائقية والمادية، وكذلك الشهادات التي أدلي بها الضحايا والشهود. ويشمل ذلك العمل على حماية أرشيف الدولة بحيث لا يمكن إزالة أو إتلاف أو إخفاء أو تزوير أي شيء.

وشكًلت السلطة التنفيذية في الحكومات الوطنية معظم هذه اللجان، بيد أن هناك لجاناً شكلتها مجالس تشريعية ومنظمات حكومية وغير حكومية، وفي الحالات التي تشهد فيها المجتمعات المحلية حالات مختلفة من الاستقطاب السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، يمكن أن تكون الرعاية الدولية حاسمة في دعم حياد ومصداقية لجنة ما، وهذه الآلية الهجين ينادي بعضا من الفرقاء اللبنانيين لتتبنيها، بل أن الرئيس الفرنسي وغيره من زعماء الدول أبدوا استعداد دولهم لدعم لبنان في هذا الصدد.

وأظهرت التجربة أيضاً أن الوضع الأمني في بعض الدول قد يكون متوتراً إلى حد مواجهة أعضاء اللجنة المحليين تهديداتٍ وعمليات انتقام مما يجعل عملهم صعباً إن لم يكن مستحيلاً، وربما تكون لبنان مرت بذات التجربة بعد حادث اغتيال رئيس الوزراء الاسبق رفيق الحريري في فبراير 2005، مما حدا برئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة أن يطلب من منظمة الأمم المتحدة انشاء لجنة تحقيق دولية لكشف ملابسات الحادث، وبعد ذلك طلب من المنظمة أن تشكل محكمة ذات طابع دولي لملاحقة المتهمين بارتكاب الحادث.

وتفوض الهيئة الدولية المُؤسِسة للجنة لتقصي الحقائق بولاية تحدد أهدافها وسلطاتها وإجراءاتها والمدي الزمني للانتهاء من اجراءاتها، وقد وتشمل أنواع الانتهاكات التي تفوّض اللجان عادة في التحقيق فيها الاغتيالات السياسية والتعذيب والاختفاء وأعمال العنف الخطيرة الأخرى، وفي بعض الأحيان قد يقتصر التفويض على النظر في نوع معين فقط من الانتهاكات التي عانت منها هذه الدولة.

وأما بالنسبة للشفافية التي تُعد علانية التحقيقات وكشفها للجمهور  المتلهف لمعرفة  الحقيقة أحد أهم معاييرها، فما يعوق أحيانا تحقيق هذا  المتطلب الحيوي تعرض أمن أعضاء اللجنة والشهود للخطر، لذلك  فإن الوضع السياسي والأمني في الدولة يحدد التوازن الضروري بين الجلسات العلنية وغير العلنية، وهنا يسطع السياق اللبناني بالدليل الدامغ علي أهمية مراعاة البعد الوضع  السياسي والأمني في هذا الصدد، وتدليلا فالمحكمة الخاصة بلبنان كان من المحال أن تنعقد في لبنان، وانطبق ذان الأمر علي المحكمة  السابقة ليوغوسلافيا السابقة و المحكمة السابقة الخاصة برواندا .

وباستعراض لجان تقصي الحقائق تجدر الإشارة إلى أن هناك عدة عوامل يرتبط كثير منها ببعضه البعض وتسهم بشكل ملموس في نجاح هذه اللجان، فيجب أن تعمل اللجنة في مناخ سياسي يدعم عملها، ويجب أن يتمتع أعضاء اللجنة بالكفاءة، و يجب أن تتمتع اللجنة باستقلال عملي كامل في تفسير وتنفيذ المهام التي فُوِّضت فيها، ويجب أن تتسم إجراءات اللجنة بالعدل والمصداقية، ويتعين على اللجنة أن تراعي عقد بعض الجلسات العلنية، وأن تتخذ تدابير أخرى لتشجيع المشاركة الشعبية إلى الحد الذي تسمح به القيود الأمنية والقيود الأخرى، ويجب أن يتاح للجنة كافة الأدلة والشهود، ويجب أن تتوفر للجنة الموارد الكافية ، ويجب أن تلقى اللجنة مساندة من المجتمع الدولي عند الضرورة، ويجب أن ينشر تقرير اللجنة على نطاق واسع وفي الوقت المناسب.

صفوة القول، لا يمكن الحديث عن أية لجنة للتحقيق الدولي للكشف عن ملابسات الحادث المفجع في بيروت في ظل سياق رسمي يتزعمه الرئيس اللبناني ميشيل عون يرفض العدالة الدولية بزعم كفاءة وأهلية المؤسسات الوطنية اللبنانية.

نقلا عن سكاي نيوز عربية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى