وقف رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الشهر الماضي، على قمة مبنى البرلمان الجديد في نيودلهي، والذي تم الانتهاء من بنائه تقريباً، حيث تم بناؤه بمناسبة مرور 75 عاماً على استقلال البلاد، وسحب رافعة ففُتحت ستارة حمراء لتكشف عن تمثال ضخم، وحينها فوجئ الكثير من سكان نيودلهي عند رؤيته.
ويتكون التمثال البرونزي، الذي يبلغ ارتفاعه 21 قدماً، من أربعة أسود تجلس ووجوهها متجهة نحو الخارج، وهي رمز وطني في الهند، وقد بدا هذا التمثال مختلفاً عن الشكل المعتاد لمثل هذه التماثيل في الهند، إذ إن أنياب الأسود تبدو واضحة كما أنها بدت غاضبة وعدوانية.
وبالنسبة إلى منتقدي مودي، فإن الشكل الجديد الذي أُعيد تشكيله أعلى مبنى البرلمان، وهو مشروع تم بناؤه من دون إجراء أي مناقشات أو استشارات عامة، يمثل «الهند الجديدة» الغاضبة التي يرغب رئيس الوزراء في خلقها.
وخلال السنوات الثماني التي قضتها في السلطة، قامت حكومة حزب «بهاراتيا جاناتا» التي يتزعمها مودي، بتشويه الديمقراطية الهندية، إذ تبنت نظام الأغلبية الهندوسية المتطرفة غير المتسامحة على حساب المُثُل العلمانية والتعددية والتسامح الديني والمواطنة المتساوية التي تأسست عليها البلاد بعد حصولها على الاستقلال في 15 أغسطس (آب) 1947.
ويستخدم النظام الهندي آلية حكومية مختلطة، ومعلومات مضللة وأساليب ترهيب من عصابات الأحزاب لإسكات المنتقدين بينما يتم مضايقة الأقلية المسلمة الكبيرة في البلاد، فضلاً على تأجيج الانقسام الاجتماعي والعنف، كما يتم انتهاك الحريات المدنية بشكل منهجي.
وتعد الهند، وهي أكبر ديمقراطية في العالم، المكان الذي تضيع فيه المعركة العالمية بين الليبرالية والاستبداد، ومع ذلك، فإن الديمقراطيات الغربية مثل الولايات المتحدة ترفض الحديث مع مودي حول الأمر، ولكنها بدلاً من ذلك تقوم بمغازلته للحفاظ على الوصول إلى سوق الهند الضخم، ومن أجل استخدام نيودلهي بوصفها حصناً استراتيجياً ضد الصين.
وفي العام الماضي خفّض معهد «V – Dem» السويدي تصنيف الهند إلى كونها «دولة استبدادية»، وخفضت منظمة «فريدوم هاوس»، ومقرها واشنطن، تصنيفها إلى دولة «حرة جزئياً»، وقالت: «فريدوم هاوس»، إن تراجع تصنيف الهند، بسكانها البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة، قد أدى إلى قلب ميزان الحرية العالمي بقوة لصالح الاستبداد، حيث يعيش أقل من 20% من سكان العالم الآن في بلدان «حُرة».
وعلى الرغم من تسارع انحدار الهند نحو الاستبداد، فإنه سيكون من الظلم إلقاء اللوم كله على الحكومة، وذلك لأن المؤسسات الحكومية الضعيفة والتفاوت الاجتماعي، وهي المشكلات التي تفاقمت منذ سنوات الهند الأولى، قد استنزفت ديمقراطيتها ووفّرت أرضية خصبة لترسيخ سياسة التفوق الهندوسي.
وعلى الرغم من انتشار الفقر والأمية والتنوع العرقي والديني والاجتماعي المتطرف، فقد شقَّت الهند طريقاً مختلفاً منذ الاستقلال، إذ أُطلق عليها اسم الديمقراطية غير المحتملة، حيث إنها على الرغم من تبنيها دستوراً تقدمياً، فإنها ظلَّت تحتفظ بهياكل إدارية استعمارية بريطانية شديدة المركزية والتي تمنح الحكومة المنتخبة والمسؤولين التنفيذيين سيطرة شبه كاملة على مؤسسات مثل الشرطة ووكالات إنفاذ القانون الأخرى، وباقترانها مع قوانين الأمن الصارمة والتحريض على الفتنة، فإنَّها تسمح لقادة الدولة والمسؤولين المنتخبين بكبح المعارضة مع الإفلات من العقاب.
وقد قام حزب مودي بحشد أدوات القمع هذه، لكنه ليس أول من استخدمها كسلاح، فقد نشأت في ولاية البنغال الغربية، وبعد الاستقلال، قاد حزب المؤتمر الدولة، والذي قام بنشر الحمقى ورجال الشرطة لخنق المعارضة، ثم تبعه الحزب الشيوعي، الذي استمر في السلطة لمدة 34 عاماً وأضعف مؤسسات الدولة بشكل كامل، والآن يحكم ولاية البنغال الغربية حزب يصور زعيمه نفسه بديلاً وطنياً لاستبداد مودي، لكنه اتُّهم بالمثل بالاعتماد على القوة الغاشمة، ولطالما انتشرت مثل هذه الاتجاهات الاستبدادية على مستوى الدولة، حيث حكم مودي نفسه ولاية غوجارات الغربية بيد من حديد لما يقرب من 13 عاماً، واتُّهم بتشجيع أعمال الشغب المعادية للمسلمين في عام 2002.
وتتجذر السلطات التعسفية هذه في حقيقة أن معظم الأحزاب السياسية تتمحور حول شخصية المسؤولين فيها وأسرهم، فالهند هي ديمقراطية نادرة تعد الأحزاب السياسية فيها غير ديمقراطية، كما أنها لا تُجري انتخابات داخلية.
وقد أصبح المال، وكذلك الروابط الإجرامية في كثير من الأحيان، أمراً بالغ الأهمية في السياسة الهندية، حيث يتم شراء المشرعين وبيعهم، كما أن كثيراً منهم غير مجهزين بشكل سيئ لسن القوانين، ولكنهم بدلاً من ذلك يقرون سياسات المسؤولين التنفيذيين الكبار، والتي غالباً ما تكون تهدف لمصالح خاصة بعيدة كل البُعد عن مصالح الناس، مثل القوانين الزراعية التي أثارت احتجاجات المزارعين حتى تم إلغاؤها العام الماضي.
ولكن العائق الأعمق والأقدم بكثير أمام تطوير ديمقراطية صحية ومرنة كان فشل الهند التاريخي في ضمان رفاهية مواطنيها الأشد فقراً، حيث يموت مئات الآلاف من الأطفال كل عام بسبب الجوع، ويعاني أكثر من ثلثهم من التقزم، وذلك في الوقت الذي يتسابق فيه المليارديرات الهنود على قوائم الأغنياء العالمية.
وقد أدت السياسات النيوليبرالية إلى تفاقم عدم المساواة في نيودلهي، حيث تراجعت الدولة عن القيام بالمسؤوليات الأساسية مثل الصحة والتعليم، وهو ما يؤدي لشعور الملايين من السكان بالإهانة والضعف، مما يجعلهم يلجأون لهويتهم الجماعية وينجذبون نحو القادة الأقوياء الذين يَعدونهم بالدفاع عنهم ضد الجماعات الأخرى، كما أنه يسهل دخولهم في دائرة الكراهية الدينية التي تُستخدم الآن لإعادة تعريف الهند العلمانية بوصفها دولة هندوسية.
ويعكس تكوين البرلمان الهندي بالفعل هذه الأغلبية، إذ يبلغ تعداد المسلمين في الهند 200 مليون، وهو ثالث أكبر تعداد للمسلمين في العالم، بعد إندونيسيا وباكستان، ويمثلون نحو 15% من الهنود، فيما يشكل الهندوس نحو 80% من السكان، ولكن على الرغم من ذلك فإن المسلمين يشغلون 5% فقط من مقاعد البرلمان، ويعد «بهاراتيا جاناتا» هو أول حزب حاكم في تاريخ الهند الممتد لـ75 عاماً من دون عضو مسلم واحد في البرلمان.
ويتم تطبيق القوانين والحقوق في الهند بشكل غير متساوٍ، كما يمكن الآن إلقاء القبض على المسلمين بسبب صلاتهم في الأماكن العامة، بينما تتم تهنئة الحجاج الهندوس من مسؤولي الدولة، وتحتفل الدولة بالديانة الهندوسية، بينما يتم تنظيم احتجاجات ضد عادات المسلمين مثل ارتداء الحجاب أو رفع الأذان، وتهاجم الجماعات الهندوسية المسلمين وأعمالهم.
وكان مسؤول رفيع المستوى من «بهاراتيا جاناتا» الحاكم قد وصف اللاجئين المسلمين من بنغلاديش بـ«النمل الأبيض» الذي يلتهم موارد البلاد، وبسبب تشجيعهم من خلال دعم الدولة لهم، يهدد المتطرفون الهندوس الآن علانية بالإبادة الجماعية للمسلمين، بينما تعتقل الحكومة الصحافيين الذين يتحدثون عن أعمال الكراهية، وفي 15 أغسطس (ذكرى الاستقلال) أطلقت الحكومة سراح 11 مداناً يقضون عقوبة بالسجن مدى الحياة بتهمة اغتصاب جماعي لامرأة مسلمة، وقتل 14 فرداً من عائلتها خلال مذبحة «غوجارات» عام 2002 التي وقعت في عهد مودي.
ولا يمكن للمؤسسات التي تم إضعافها أن تفعل الكثير للتراجع عن مثل هذه السياسات، كما أن النظام القضائي غير الفعّال في البلاد (هناك 40 مليون قضية متراكمة معلقة) يولّد ازدراءً شعبياً لسيادة القانون، فقد كانت المحكمة العليا معروفة في السابق بنشاطها واستقلالها، ولكنها باتت الآن في غالبية الأحيان تعمل بشكل وثيق مع الحكومة، ويتغاضى قضاة المحكمة عن تصرفات مودي، فيما تتعرَّض الصحافة الهندية، التي لعبت ذات يوم دوراً رئيسياً في حماية الديمقراطية، لضغوط لخدمة نظامه. وفي الذكرى الـ75 لاستقلال الهند، وبعد عقود من الانتهاك المؤسسي، أصبحت الديمقراطية في نيودلهي أضعف من أن تصمد أمام رجل قوي يضرب بمطرقة ثقيلة على أسسها الضعيفة، فعلى الرغم من أن مودي يطلق على مبنى البرلمان اسم «معبد الديمقراطية»، فإن المبنى الجديد للمؤسسة في نيودلهي هو بدلاً من ذلك بمثابة نصب تذكاري لشبه الديمقراطية التي يقوم ببنائها، والتي تتمثل في مجرد واجهة مجوفة موجودة لإضفاء الشرعية على حكمه الاستبدادي.