المليشيات وأمل الدولة العصرية في ليبيا


منذ انهيار نظام القذافي، لم يتمكن الليبيون من الوصول إلى توافقات أو مصالحة والاستفادة من دروس الماضي، مما جعل أوضاع هذا البلد على فوهة بركان، انتشر السلاح وانقسمت الفصائل المسلحة والمتصارعة.

 ولو تمعنا في الخريطة السياسية الحاضرة لاكتشفنا أن الوضع الليبي هو عبارة عن نزاع بين الشرعية المتمثلة بمجلس النواب والجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، والذي يريد إرساء مبادئ الدولة العصرية القوية القادرة على البناء، وبين الخارجين عن الشرعية التي تتمثل في مليشيات السراج والمرتزقة والإرهابيين ومعهم عناصر التدخل التركي.

وجرّ هذا المشهد البلدان العربية والأوروبية إزاء هذه الأزمة بين مؤيد ومعارض لهذه الشرعية، وتنوعت استجاباتها. وباستيلاء هذه المليشيات على السلطة، انتشرت الفوضى الليبية وزعزعت أركان الدولة التي كانت في الأصل هشة وضعيفة في عهد الراحل معمر القذافي. وبات جلياً أن انتشار السلاح في أيدي المليشيات المتطرفة التي استولت على طرابلس، لا يمكن السيطرة عليها، وخرجت عن نطاقها وأصبحت مصدر تهديد لبناء هذه الدولة العصرية المنشودة، القادرة على مدّ علاقات طبيعية مع البلدان العربية وبلدان العالم على أسس المصالح المشتركة.

لم تظهر هذه المليشيات التي سيطرت على زمام السلطة في طرابلس، حاملةً للسلاح فقط بل هي تبشّر بفكر إرهابي خطير ومتطرف، خلفيته من ذيول السلفية والقاعدة والأخوان، إضافة إلى فصائل من العشائر والقبائل ممن أصبح السيطرة عليها صعباً وأدى إلى انتشار الفوضى الحالية التي تشهدها ليبيا. لذلك أصبح ضرورياً أن يتحرك الجيش الوطني الليبي ومجلس النواب ليضعا حداً لهذه الفوضى العارمة، أملاً في فرض السلطة الشرعية وسحب السلاح من المليشيات المتطرفة، وإرساء أسس الدولة التي هدفها إنقاذ الوضع المتردي الذي وصلت إليه البلاد.

إن من أهم نتائج هذه الفوضى في مختلف المدن الليبية، أنها قسّمت البلد إلى ما يشبه المقاطعات. وجعلت بلدان الجوار، من البلدان الإقليمية، مثل مصر والجزائر تبديا قلقهما إزاء ما يجري، لأن الفوضى ليست بعيدة عن حدودهما، ومن حقهما التحرك الدبلوماسي واحتمال التحرك العسكري لاطفاء فتيل الفوضى التي تعبث بها المليشيات المسيطرة على طرابلس.

 ولا يقتصر الأمر على ذلك، فالوضع الليبي وصل إلى درجة كبيرة من الغليان، بحيث بدأت تأثيراته الكارثية ونتائجه السلبية تؤثر على الأمن الأوروبي، وهذا ما جعل فرنسا تعلن حالة الخطر وتحدد منابعه. ومع القلق المصري والجزائري، يمكن إضافة القلق التونسي والسوداني من جراء هذه الفوضى.

إن قرب ليبيا من بلدان أوروبا من شأنه أن يؤثر على دول الضفة الشمالية للمتوسط، فيما يتعلق بالهجرة غير الشرعية التي قد تفجر الأوضاع من جديد في تدفقات شهدتها السنوات الأخيرة.

 لقد سيطرت على حكومة طرابلس قوى إرهابية لا تلقي السلاح بسهولة، ولها مسار مغاير وهو مسار الانفصال، يحمل في طياته نتائج كارثية في البلد الليبي والمنطقة.

 الوضع الليبي له تأثيرات كبيرة على الأوضاع العربية عامة، وهي تتعلق بالأمن القومي من ناحية، ومن الصراع مع الإسلام السياسي من ناحية أخرى. وهذا ما ترسمه خريطة التدخل التركي في ليبيا، والتي تركز على مصالحها الاقتصادية البحتة، وتزيد المشهد الليبي تعقيدا، وهو ما ينذر إلى الحروب بالنيابة أو الحروب المباشرةً.

مما لا شك فيه أن الخلافات الموجودة بين الأطراف المتصارعة والموالية لحكومة الوفاق، وهي تنظيمات متطرفة، تتنازع فيما بينها، ولا يوحدها فكر سوى التطرف والارهاب مما يضع البلد على صفيح ساخن، ويجعل ليبيا تغوص في صراعات لا تنتهي، وآفاق غامضة، ومفتوحة على جميع الاحتمالات، بينما يحاول الجيش الوطني الليبي ومعه مجلس النواب إلى وضع البلد على المسار الصحيح وبناء الدولة العصرية القائمة على حسن الجوار مع البلدان الإقليمية وعلاقات طبيعية مع بلدان العالم بعيداً عن التحالفات المؤقتة والقائمة على المصالح الضيقة كما هو حاصل مع التدخل التركي.

 ولا ينفصل الانهيار الذي تعاني منه ليبيا عن تدهور النظام الأقليمي العربي، وتراجعه عن تأدية دوره في هذه الأزمة، إضافة إلى جمود الاتحاد المغاربي وعدم فاعليته.

إن المليشيات المسيطرة على طرابلس حولت ليبيا إلى بؤرة للإرهاب، ونهوض الجماعات المسلحة يشجع قوى كثيرة على إرساء هذا الوضع الغامض، حيث الجماعات المتطرفة بدأت ترى في ليبيا أفقا جديداً ومرتعاً لازدهارها، ولهذا فهي تعارض إرساء الدولة العصرية في ليبيا والتي يطمح إلى تأسيسها الجيش الوطني الليبي.

  يبقى الأمل يراود الشعب الليبي الذي عاش دوامة الفوضى منذ سقوط القذافي ولحد الآن في رؤية نهاية النفق المظلم بتأسيس دولة عصرية ووجود جيش وطني متماسك وعلاقات متوازنة مع الدول العربية والإقليمية.

نقلا عن العين الإخبارية

Exit mobile version