الملكية المغربية وصناعة نهضة صحية جديدة: من الإصلاح البنيوي إلى تمكين الكفاءات الوطنية
في عالمٍ يتراجع فيه حضور الدولة كضامنٍ فعليٍّ للحق في الصحة، يواصل المغرب، بقيادة الملك محمد السادس، هندسةَ ثورةٍ صامتة تُعيد تعريف مفهوم “السيادة الصحية”. ليست المسألة مجردَ افتتاح مستشفيات جديدة أو إضافة أسرّة استشفائية، بل هي مشروع حضاري متكامل يروم إعادة بناء علاقة المواطن بالدولة على أساس الثقة، والكرامة، والعلم، والكفاءة.
وتدشين العاهل المغربي، مرفوقًا بوليّ العهد الأمير مولاي الحسن، للمركب الاستشفائي الجامعي الدولي محمد السادس بالرباط، وإعطاء إشارة افتتاح نظيره في أكادير، ليس حدثًا عاديًا في مسار تحديث المنظومة الصحية المغربية، بل هو إعلان عن دخول المغرب مرحلة جديدة من تدبير الصحة العمومية، حيث تتحول المستشفيات إلى مؤسسات ذكية تربط بين الرعاية الطبية، والتكوين الأكاديمي، والبحث العلمي، والاستدامة البيئية.
من “المستشفى” إلى “المؤسسة الذكية”
والمركب الجامعي الدولي محمد السادس بالرباط ليس فقط صرحًا طبيًا فائق التجهيز، بل تجسيد عملي لفلسفة ملكية ترى أن جودة العلاج لا تنفصل عن جودة التعليم والبحث. إنه مستشفى وجامعة في آنٍ واحد، مصنع للأطباء والباحثين، ومختبر للتكنولوجيا الطبية المتقدمة. في هذا الفضاء، الذي يمتد على 280 ألف متر مربع، تتجاور غرف العمليات الروبوتية مع قاعات المحاضرات، ويتفاعل الطالب مع أحدث الأجهزة التشخيصية كما لو كان في مراكز “مايو كلينك” أو “جون هوبكنز”.
ولأن المغرب يدرك أن السيادة الصحية لا تُبنى بالمباني وحدها، بل بالعقول والمهارات، فقد جعل الملك محمد السادس من تكوين الرأسمال البشري أحد أعمدة هذا التحول. جامعة محمد السادس للعلوم والصحة، بما تضمه من كليات ومدارس ومراكز محاكاة، تشكّل اليوم نقطة تحول في تاريخ التعليم الطبي بالمغرب، إذ تنقل التكوين من النمط النظري إلى الممارسة الميدانية في بيئة رقمية متقدمة تُعد الطلبة ليكونوا أطباء المستقبل، لا أطباء الماضي.

أكادير: الطب اللامركزي وصناعة التوازن الجهوي
في أكادير، يأخذ المشروع بُعدًا مكمّلًا، فالمركز الاستشفائي الجامعي محمد السادس لأكادير ليس مجرد امتدادٍ للرباط، بل تعبير عن رؤية ملكية لتوزيع العدالة الصحية بين الجهات. فبفضل هذا القطب الطبي للتميز، لن يضطر سكان سوس-ماسة بعد اليوم إلى قطع مئات الكيلومترات بحثًا عن علاج متخصص أو عملية جراحية دقيقة.
ويضم هذا الصرح أول روبوت جراحي في إفريقيا، ومركزًا للتعقيم الذكي، وصيدلية آلية، وأقطابًا للتميّز في أمراض القلب والجراحة الدقيقة. إنها قفزة نوعية في مسار اللامركزية الصحية، وإشارة قوية إلى أن الجهوية المتقدمة لم تعد مفهومًا دستوريًا فقط، بل واقعًا مؤسسيًا في خدمة المواطن.
لكن جوهر هذا المشروع الملكي يتجاوز البعد الصحي. ففي كل مستشفى جديد، يضع المغرب لبنة في بناء أمنه الوطني غير العسكري، فالصحة، كما أظهرت جائحة “كوفيد-19″، هي خط الدفاع الأول عن الدولة الحديثة. من هنا نفهم لماذا تحرص المؤسسة الملكية على جعل كل مبادرة طبية كبرى جزءًا من رؤية أوسع للاستقلال الاستراتيجي — استقلال في الدواء، وفي الكفاءات، وفي البحث العلمي.
كما أن اختيار المغرب لمعايير الجودة البيئية العالية (HQE) يؤكد أن النموذج التنموي الجديد لا يفصل بين الإنسان والبيئة، فالمركب الاستشفائي الدولي للرباط، الذي يغطي أكثر من 10 في المئة من احتياجاته الطاقية عبر الألواح الشمسية، ويقلص انبعاثاته الكربونية بنسبة 40 في المئة، يجسّد تحوّل الرؤية الملكية نحو “الاستشفاء الأخضر” القائم على التوازن بين التقدم العلمي والاستدامة البيئية.
نحو “دبلوماسية صحية مغربية”
إن هذه المشاريع ذات البعد العالمي تمنح المغرب موقعًا متقدمًا في إفريقيا والعالم العربي في مجال الطب الجامعي الذكي. فهي تفتح أمام المملكة آفاقًا جديدة لـدبلوماسية صحية مغربية — مجال بدأت تتنافس فيه الدول الكبرى عبر تصدير المعرفة والخبرة الطبية. فبوجود مركّبات استشفائية بهذا المستوى، يصبح المغرب مركزًا إقليميًا للتكوين والبحث والتعاون الصحي جنوب–جنوب، امتدادًا طبيعيًا لدوره الريادي في الأمن الغذائي والهجرة والتنمية المستدامة.
ومن خلال هذه الإنجازات المتلاحقة، يواصل الملك محمد السادس إعادة صياغة مفهوم “الدولة الاجتماعية الحديثة”، دولة لا تكتفي بإعلان الحق في الصحة، بل توفر له الإطار المؤسساتي والعلمي والإنساني الذي يضمن استدامته.
إنها ثورة هادئة لكنها عميقة، عنوانها “الإنسان أولًا”، وأفقها بناء مغربٍ يملك القدرة على شفاء أبنائه بيد أبنائه، ويصنع من الطب رافعةً للكرامة الوطنية، ومجالًا جديدًا من مجالات التفوق المغربي في القرن الحادي والعشرين.







